IMLebanon

انشقاق جندي لبناني… وبحث ضائع عن دولة أو زعامة

قوبل إعلان جندي لبناني انشقاقه عن الجيش وانضمامه الى جبهة «النصرة» بشيء من الاستخفاف والتجاهل المترافقين مع «تمنيات» رسمية بعدم تضخيم الأمور وإعطائها أكثر من حجمها في وسائل الإعلام، من باب درء الفتنة والحفاظ على تماسك المؤسسة العسكرية، وغير ذلك من تدابير الوقاية التي ما عادت تسمن أو تغني من جوع.

فالانشقاق أو «الفرار» كما قرر بعضهم تسميته إمعاناً في إنكاره، يطرح مطالعة سياسية كاملة لضائقة الطائفة السنية، لا سيما في الأرياف والأطراف. ذاك أن الجندي يستعرض بلغة بسيطة ولهجة شمالية واضحة، محطات أساسية من المواجهات المعلنة أو المضمرة مع «السلطة» المتمثلة بـ «حزب الله» أو أدواته الرسمية، من مذكرات توقيف بذريعة مكافحة الإرهاب، إلى سجن بلا محاكمة، وصولاً إلى القتال المسلح، من دون نسيان تاريخ مفصلي في الذاكرة الجمعية مثل 7 أيار.

واللافت في التسجيل المصور الذي اعتمد أسلوب انشقاقات الجيش الحر مطلع الثورة السورية، تخلّيه عن اللغة الفصحى أو أي تكلف في الحديث يبذله عادة المنضمون حديثاً إلى المجموعات «الجهادية». فهنا لا استشهاد بنصوص دينية ولا استعراض لمآثر حربية، بل مجرد كلام عادي، من شاب عادي، يردد صداه أناس عاديون. إنهم جمهور السنة الذين يمضغون مرارة التخلي عنهم وتركهم وحيدين في مواجهة تغيرات هائلة تضرب المنطقة برمتها، ومطالبتهم في الوقت نفسه بضبط النفس وإثبات الاعتدال.

وهنا، يوجّه الشاب سؤالاً قد يبدو محقاً حول تعريف الإرهاب، فينطق بما يجول في خاطر الشارع السني متسائلاً ببداهة إن كان الاغتيال السياسي واستباحة بيروت بقوة السلاح وإخضاع مؤسسات الدولة ومنها الجيش، كلها قابل لأن يمر من دون محاسبة أو عقاب، فيما يستفرَد في المقابل أبناء الطائفة السنية بتلك الذريعة نفسها.

والواقع أن الرسالة المصوّرة التي قد تبدو موجهة ضد «حزب الله»، هي عملياً نداء استغاثة يشي بأن صاحبها معني أكثر بالبحث عن زعامة لطائفته وحمايةٍ ما من بقايا الدولة. فهو لم يهاجم الجيش في جوهره أو عقيدته ولم يكفّره كما يجري عادة في انشقاقات «الجهاديين»، بل حملت شكواه مطالبة ضمنية بأن تضطلع المؤسسة العسكرية بدورها وتكون صاحبة قرارها لما تمثله من أجهزة الدولة، وإلا فالرحيل عنها إلى ما يلبي الطموح. وهو إذّاك بدا، كموظف شركة قرر تقديم استقالته لخرق رب العمل شروط العقد لمصلحة عرض أفضل.

وهذا النداء يفترض أن يعنى به أيضاً «تيار المستقبل»، الذي يشعر جمهوره الشمالي بالخذلان فيما يعيش قادته حالة نكران وانفصال عن القاعدة. فتلك المناطق، لا سيما عكار التي يتحدر منها الشاب المجند، وهي خزان مزدوج للمؤسسة العسكرية وتيار المستقبل، تجد نفسها اليوم عارية تماماً.

ففي حين كان الجيش منفذاً ملائماً لمشكلة البطالة المتفشّية في أكثر مناطق لبنان فقراً وإهمالاً، جاء تيار المستقبل بعد انسحاب الجيش السوري، لينهل بدوره من حرمان المنطقة وبؤسها. وهكذا تحوّلت تلك الكتلة البشرية نفسها من جمهور للدولة عبر المؤسّسة العسكرية، إلى كتلة ناخبة لتيار المستقبل الذي وجدت فيه مخلّصاً من حقبة سوداء، وباباً للعودة إلى «كنف الوطن».

فلا يمكن فهم الإحباط العميق في الريف الشمالي، من دون التوقف عند حقبة النفوذ السوري وتواطؤ الدولة على ما اعتبر آنذاك «المحافظة السورية الخامسة عشرة» واستباحتها بشكل كامل، ثم استتباع ذلك بسياسات فاشلة وانتقائية بعد 2005.

ولا يستثنى الجيش نفسه من هذه الانتقادات، التي تعود إلى ما قبل ذلك التاريخ. فإذا كانت لا تزال قريبةً أحداث مخيم نهر البارد في 2007، وما شهدته من رفض بعض المجنّدين القتال وتذرّعهم بالمرض أحياناً، وحادثة «انشقاق» أخوة من آل جوهر عن الجيش وانضمامهم لـ «فتح الاسلام» ثم تغيير التشكيلات المقاتلة، فإن أحداثاً كثيرة فردية وجماعية عمّقت الهوّة مع المؤسسة العسكرية. ومن ذلك على سبيل المثال أحداث الضنية في 2000، والممارسات العنفية التي يتلقاها أبناء طرابلس والتبانة تحديداً عند كل جنحة يرتبكونها. فالذاكرة لم تمحُ بعد مشهد دبابات الجيش لا قوات الشرطة أو الدرك، التي تنتشر في الشوارع والأزقّة لتوقيف مراهق بتهمة السرقة أو تاجر مخدرات صغير.

وبالعودة الى انشقاق الجندي، فإنه يكشف مرة أخرى العلاقة الملتبسة مع الدولة وبحث الهوامش عن دور في المتن مقابل إحباطٍ تلوَ الآخر. وإلى ذلك فهو يكشف هشاشة مؤسسات وولاءات تستمر بفعل المداراة والإنكار لا بفعل صلابة مكوناتها. فإن كان جنديّ انشقّ عن الجيش، فالبحث الفعلي يجب أن ينصبّ على بقية اللبنانيين الراغبين في الانشقاق عن الدولة.