أوضح تنظيم «داعش» هذا الأسبوع عزمه على استدراج الرئيس باراك أوباما الى التورط بصورة أكثر مباشرة في المعركة معه وذلك عبر تحديه الى إيقاف الغارات الجوية ضد مواقع «داعش» في العراق، وإلاّ، فالمزيد من الإعدامات المروّعة لأميركيين على نسق إعدام الصحافي الأميركي المخطوف سابقاً جيمس فولي. وراء هذه الاستراتيجية الكثير من الأسباب، منها ما يدخل في خانة التباهي بالانخراط في حرب مع الولايات المتحدة تساهم في حشد المزيد من المتطوعين الغربيين في صفوف «داعش» والذين تزداد أعدادهم بصورة ملحوظة. وهناك أسباب تنطلق من الرهان على ضعف الرئيس أوباما وعدم امتلاكه القدرة الشخصية ولا الولاية الشعبية للحسم وللحزم ضد «داعش» في العراق أو في سورية – أقلّه وفق ما استنتج تنظيم «داعش» ورسم استراتيجيته بناء عليه. واضح أن القيادة الأميركية والبريطانية المتمثلة بباراك أوباما وديفيد كامرون واقعة في أكثر من مأزق. فالثنائي الأميركي – البريطاني له سمعة وتركة في غاية السوء في العراق، إذ ان التدخل الأميركي – البريطاني في عهد إدارات وحكومات سابقة، أسفر عن موت ما يقارب المليون عراقي منذ بدأ في أوائل التسعينات من القرن الماضي. وهذا الثنائي متهم بأنه صاحب استراتيجية وخطط استدراج الإرهابيين الأميركيين والبريطانيين الى العراق وسورية لإبعادهم من المدن الأميركية ولتطويقهم في ساحة المعركة بكلفة للسوريين والعراقيين بدل أن يدفع الأميركيون والبريطانيون الثمن في الساحة الأميركية أو البريطانية. في الوقت ذاته، تتوافق القيادة الروسية مع هذه الرغبة، فالرئيس فلاديمير بوتين ايضاً يريد إبعاد الإرهابيين الروس والشيشانيين والمجاورين له عن منطقته الجغرافية وهو حازم في إبقائهم منشغلين في المعارك في سورية. وهذا ما ساهم في إنماء «داعش» وتقويته بمساهمة الأجهزة الاستخباراتية في هذه الدول ودول أخرى في الشرق الأوسط. اليوم، يندم باراك أوباما على الأخطاء التي ارتكبها مع حلفائه الأوروبيين في ليبيا، فيما يقف حائراً أمام خياراته في العراق وشعوره بالذنب نحو سورية. اليوم، يتظاهر ديفيد كامرون بأن سياساته واضحة فيتحدث عن استراتيجية العمل مع الحكومة العراقية سياسياً وتقوية كردستان عسكرياً كوسيلة لإلحاق الهزيمة بـ «داعش». اليوم، يستنفر رؤساء الدول لعقد المؤتمرات وإصدار القرارات وترؤس الجلسات للبحث التقليدي في «التدخل أو عدم التدخل»، وبعضهم، مثل الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند، يتحدث عن اعتزامه تقديم اقتراح «لمحاربة» تنظيم «داعش» لأنه لم يعد حركة إرهابية مثل «القاعدة» وإنما «شبه دولة إرهابية».
الرئيس أوباما لا يعترف ولا يقر بذنبٍ أو سوء سياسة تبناها نحو سورية قامت على التنصل والنأي بالنفس رافضاً التحرك لدعم المعارضة المعتدلة قبل سنتين أو ثلاث مما أدى فعلاً وساهم حقاً في إنماء قوى التطرف على نسق «داعش».
فرانسوا هولاند، في حديثٍ لصحيفة «لوموند» قال إن «الأسرة الدولية تتحمل مسؤولية خطيرة جداً في ما يحدث في سورية»، وأضاف: «لو تحركنا قبل سنتين من أجل عملية انتقالية لما واجهنا الدولة الإسلامية». ولكن، ماذا سيقدم هولاند من أفكار ومبادرة تتعدى «الاكتفاء بالنقاش التقليدي حول التدخل أو عدم التدخل؟»، وماذا ستنطوي عليه استراتيجية «محاربة» التنظيم؟
الركيزتان الرئيستان في هذه الاستراتيجية في العراق بالذات هما محاربة الإرهاب عبر الصحوات السنّية وعبر تسليح الأكراد. هناك عنصر الدفع بالعملية السياسية العراقية والعمل مع رئيس الحكومة الجديدة لتُقلِع الحكومة بعيداً من الأذى الذي ألحقه رئيس الحكومة السابق نوري المالكي بالعراق مدعوماً من ايران وخصوصاً جناح «الحرس الثوري» منها. فالطائفية وإقصاء السنّة ساهما في إنماء «داعش» الى ما نما إليه وتمكّنه من الانطلاق من بيئة حاضنة كانت نبذته سابقاً – وستنبذه مجدداً اذا توافرت الضمانات الضرورية وتوقفت أنماط الإقصاء.
اليوم، يريد ما يسمى بـ «الأسرة الدولية» شن حرب أخرى في العراق إنما ليس بجنوده بل بجنود محليين – كُرداً أكانوا أم سنّة الصحوات -، وكذلك بعلاقة تحالفية مع إيران و «الحرس الثوري» كما أوحت به تصريحات وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس.
الرئيس اوباما، في حديث لافت مع الصحافي المخضرم توماس فريدمان، تحدث عن عدم استعداده ليكون «السلاح الجوي العراقي»، وفق تعبيره، لا نيابة عن الحكومة العراقية ولا نيابة عن الأكراد أو الشيعة أو السنّة في العراق. قال أيضاً إنه لم يبدأ القصف الجوي ضد «داعش» باكراً بوجود المالكي، لأنه لو فعل ذلك، لسحب الضغط عن المالكي وشجّعه على التعنت والتمسك بالسلطة ورفض الحلول الوسط ولشجّعه كذلك على الاعتقاد بأن الولايات المتحدة وراءه ولا حاجة به الى مراجعة النفس والأخطاء. وهذا صحيح.
اللافت في الركيزة الأساسية في فكر أوباما هذه الأيام هو ركيزة «لا منتصر ولا مهزوم». بل إن باراك أوباما يضيف بعداً فلسفياً على هذا المبدأ ويقول إن المجتمعات تتفكك عندما تتخذ الأطراف السياسية «مواقف تصعيدية maximalist، أي مواقف التشبث بالرأي وزعم صحة المواقف التي تتبناها هذه الأطراف مئة في المئة. باراك أوباما يريد، كما أراد دوماً، أن يقف بين بين. يريد الحلول الوسط. يريد دحض نظرية أن المنتصر له الحق بالفوز بكل ما كان قائماً قبل المعارك، إذ إن الانتصار يضمن الحق في الهيمنة والإملاء.
ما لا يعترف به الرئيس الأميركي هو أنه هو الذي هرول للانسحاب من العراق وخلق بذلك الفرصة لملء الفراغ على أيدي الشركاء الذين خلقتهم الحرب الأميركية في العراق، وأن هؤلاء الشركاء هم الذين ملأوا الفراغ سلباً وهيمنة وتوظيفاً للمبدأ القائل إن «للمنتصر حق الامتلاك القاطع» للقرار والموارد والسلطة والاستفراد والإقصاء. واليوم، إن الرئيس الأميركي واثق من أن القدرات العسكرية الأميركية متفوقة لدرجة التمكن من القضاء على «داعش» عبر عمليات جوية، لكنه ليس واثقاً من ديمومة إنهاء «الداعشية» طالما الشركاء على الأرض في معمعة الطائفية وسوء التحالفات.
لافت أيضاً أن باراك أوباما يتحدث اليوم بلغة التفهّم الأميركي لمطالب «الأقلية السنّية» في العراق و «الأكثرية السنّية في سورية». يقول: «للأسف، مرت فترة لم تفهم فيها الاكثرية الشيعية في العراق» أن عدم التنبه الى طموحات السنّة المشروعة سيخلق مشاكل كبرى، وأدى ذلك الى السماح لـ «داعش» بملء الفراغ. لافت لأن سلفه جورج دبليو بوش دخل حرب العراق دفاعاً عن الحقوق الشيعية وقدّم العراق الى إيران، وها هو باراك أوباما يتحدث عن حقوق السنّة كأقلية، متناسياً هضم حقوق الأكراد السُنّة كذلك.
باراك أوباما يدخل في خانة «النكران» عندما يتحدث عن سورية. يرفض اللوم ويعتبر نفسه محقاً في سياساته. يقول إن ما يقال عن أن تسليح الثوار مطلع الحرب السورية كان سيؤدي الى نتيجة غير ما نشهده اليوم هو «من صنع المخيلة». ويضيف أن المعارضة تشكلت من أطباء ومزارعين وعاديين آخرين لم يكن في وسعهم الصمود في معركة ضد «دولة مسلحة جيداً وإنما أيضاً مدعومة بدولة مسلحة جيداً هي سورية، مدعومة من إيران و «حزب الله» المدرب على المعارك». ولذلك، وفق قاموس أوباما «لم يكن وارداً أبداً» أن يؤدي تسليح تلك المعارضة السورية بالأسلحة الخفيفة الى الربح في المعركة مع النظام وشركائه. وهذا من وجهة نظره يبرر له رفضه تسليح تلك المعارضة وتركها هائمة عارية بلا سلاح في المعركة.
فالرئيس أوباما عنيد في رفضه الاعتراف بأن سياساته في سورية ساهمت في إنماء الإرهاب وفي صعود «داعش» الى مرتبة تحديه مباشرة الى المعركة. الرئيس الأميركي لن يقرّ بمثل هذا الخطأ الفادح ولن يعترف به، لا سيما أن «داعش» له، على ما يتردد، خلايا نائمة داخل الولايات المتحدة. فالكابوس الذي يطيّر النوم من عيني الرئيس الأميركي هو أن يعود الإرهاب الى الساحة الأميركية وأن يُلام هو بسبب قصر نظر سياساته في سورية والعراق. لذلك، لن يعترف باراك أوباما بما فعله في العراق ولا بما صنعه في سورية مساهماً في إنماء الإرهاب.
يعترف الرئيس الأميركي بالذنب والخطأ نحو ليبيا. لا يندم على خلع معمر القذافي، لكنه نادم على عدم تنبهه وشركاءه الأوروبيين الى حاجة كانت ساطعة كالشمس، وهي ضرورة الإسراع الى مساعدة ليبيا في بناء الدولة وأجهزتها. الكل هرول الى مغادرة ليبيا باستثناء شركات النفط. الكل احتفى بـ «إنجازاته» في ليبيا، لا سيما أولئك الذين رقصوا في قاعات الأمم المتحدة وعانقوا بعضهم بعضاً وبكوا فرحاً.
اليوم، يتحسر باراك أوباما على ما حل بليبيا التي أصبحت وكراً لاستقطاب الإرهاب ومشروعاً لـ «الداعشية» من نوع أو آخر. اليوم، يتحدث الرئيس الأميركي بلغة الدروس الصعبة. يتحدث بلغة «إعادة بناء المجتمعات» في أعقاب التدخل العسكري. يقول: «إن الدرس الذي أطبّقه على نفسي عند النظر في احتمالات التدخل هو بالسؤال الآتي: في حال تدخلنا العسكري، هل لدينا الأجوبة حول ما يأتي به اليوم التالي؟».
مشكلة الرئيس الأميركي لم تعد معالجتها بقرار منه بالنأي عن النفس أو التنصل من المسؤولية. مشكلة الرئيس الأميركي هي أنه يُستَدعى رغماً عنه الى المعركة مع «داعش»، بقرار من «داعش» وليس بقرار منه.
استراتيجية تصدير الإرهابيين الأميركيين والبريطانيين والروس وآخرين لجمعهم في البقعة السورية – بعدما جمعهم بوش في البقعة العراقية ونجح في إبعادهم عن الأراضي الأميركية – أثبتت عدم نجاحها الى جانب كونها استراتيجية مفلسة أخلاقياً تسترخص أرواح أطفال سورية والعراق وترتأي تدمير الدولتين وتمزيقهما كثمن مقبول به عملياً.
فإذا كان القادة الدوليون عازمين على نقلة نوعية في مواجهة «الداعشية»، عليهم أولاً امتلاك الجرأة على نقلة نوعية في فكرهم وسياساتهم الضالة.