ربما ليست مصادفة أن تحلّ بالأمس الذكرى التاسعة لإستشهاد الوزير باسل فليحان، رفيق شهيد الإستقلال الثاني رفيق الحريري، مع إحياء ذكرى الجمعة العظيمة، إلا أن القيامة الرمزية تأتي مع انطلاق أعمال المحكمة الدولية بداية العام الحالي في لاهاي، التي تُنبئ بأن الخلاص قريب وبأن الحقيقة تسلك مسارها الصحيح.
كل الأمور التي كان يُعنى بها باسل تبدّلت، فالنمو الإقتصادي في لبنان يتراجع والأوضاع المعيشية باتت تثقل كاهل اللبنانيين.. وحدها المحكمة الدولية الخاصة بلبنان «تفشّ خلق» الشعب اللبناني وتفضح خبايا وخفايا النظام الأمني اللبناني السوري الذي كان متحكّما بكل مفاصل الدولة اللبنانية. أمران لافتان كشفتهما المحكمة في اليومين الاوّلين من جلساتها، يتمثّل الأمر الاوّل في التفاصيل الدقيقة والمذهلة التي يملكها الادعاء العام عن المجموعة التي نفّذت جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ورفاقه، وعلى رأسهم النائب باسل فليحان. كما تبيّن بأن هناك إحاطة كاملة بتحرّكات المنفّذين والوسائل التي اعتمدوها لإخفاء جريمتهم.
المحكمة الدولية
نجح «تكفيريو» النظام السوري في جرائمهم التسلسلية المدمّرة بهدف ضرب الإقتصاد اللبناني ونشر البؤس في كل بقعة من لبنان. ولكن بعد تسع سنوات انكشف «المستور» واتّضح بأن الجهة التي تسعى الى إخضاع لبنان بالغزوات من الجبل الى بيروت استخدمت الإغتيال السياسي كحلقة رافقت الحرب على التحرر الإقتصادي المالي وانفتاح لبنان على الخارج.
بالأدلة والبراهين، من خلال الكاميرات المزروعة على طول الطريق المؤدي الى «السان جورج» وشبكة الإتّصالات وحركتها، أثبت الإدّعاء العام أن مصطفى بدر الدين وسليم عيّاش حضّرا لإغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ورفاقه، ونفّذ التفجير انتحاري كان يقود سيارة فان «ميتسوبيشي» محمّلة بالمواد الشديدة التفجير، في حين أن المتّهمَين أسد حسن صبرا وحسين حسن عنيسي متواطئان في الجريمة.
في الواقع أن المشاهد التي عرضتها المحكمة الدولية على مرأى من العالم، أعادت اللبنانيين الى يوم 14 شباط 2005، وقد أكّد الرئيس سعد الحريري مرارا أن لا مساومة ولا مقايضة على حياة الشهداء. ولأن حياة الشهيد تبدأ يوم مماته، فإن الحقيقة ستضع حدّا نهائيا لأزمة إرهاب اللبنانيين وتسلّط الأنظمة والأحزاب الديكتاتورية وهيمنتها، وإن الشهيد باسل فليحان يرقد بسلام الى جانب الشهيد رفيق الحريري، فالحق لا يموت ووراءه مُطالِب، وفليحان كان نموذج الشاب المتطّلع الى قيام دولة حديثة ديموقراطية دفعاً بلبنان الى مصافّ الدول المتقدّمة.
من هو باسل فليحان؟
وُلد باسل فليحان في عين زحلتا في 10 أيلول 1963. نال شهادة في الاقتصاد من الجامعة الأميركية في بيروت، حصل على ماجستير في الاقتصاد التنموي والعالمي من جامعة يال في الولايات المتحدة الأميركية، وحاز دكتوراه في الاقتصاد من جامعة كولومبيا، في نيويورك. باسل فليحان هو مهندس مؤتمر «باريس 2» برعاية الرئيس الفرنسي جاك شيراك في باريس في تشرين الثاني 2002 وقامت بموجبه العديد من الدول والهيئات الاقتصادية الدولية بمنح لبنان قروضاً ومساعدات بقيمة 4.6 مليارات دولار.
شكلت الولايات المتحدة وتحديداً واشنطن المحطة المهنية في حياة فليحان، ففي العام 1987 عمل في البنك الدولي مستشارا في دائرة الشرق الأوسط. وبين عامي 1991 و1993 شغل منصب مستشار المدير التنفيذي لصندوق النقد الدولي، وتولى إدارة مشروع البنك الدولي وبرنامج الأمم المتحدة للتنمية في وزارة المال. بين عامي 1993 و1999، شغل منصب المستشار الاقتصادي لوزير المال، ومدير المشروع المشترك بين البنك الدولي وبرنامج الأمم المتحدة للتنمية المتعلق بتعزيز مشروع إدارة العائدات والضرائب في وزارة المال.
التجربة اللبنانية
في العام 1993 عاد الى لبنان منتدَباً من قبل برنامج الأمم المتحدة للتنمية للعمل في وزارة المالية اللبنانية، فاستمر في هذا الموقع على مدى ست سنوات، وشغل بعدها موقع مستشار وزير المالية، كما كان مسؤولاً عن اعادة تأهيل الوزارة. والى جانب عمله في وزارة المالية، درّس مادة الاقتصاد في الجامعة الأميركية، وقد أعطى دروساً في اقتصاديات النمو والاقتصاد الدولي والسياسات الاقتصادية التطبيقية اضافة الى الاقتصاد الرقمي. وقد أجمع طلابه على وصفه بالأستاذ الذي «يشحذ» طلابه ويدفعهم الى تنمية مقدراتهم التحليلية النقدية، وقد نشأت بينه وبينهم علاقة صداقة.
في العام 1998 تزوّج من يسمى نبيل مسلم ولهما ريان ورينا نور. وفي نهاية التسعينيات جذب الإقتصادي الشاب الرئيس رفيق الحريري، فضمّه الأخير الى فريق عمله الاقتصادي. وفي العام 2000، انتُخب نائباً في البرلمان اللبناني وكان رئيس لجنة الاقتصاد والتجارة البرلمانية، ثم عُيّن رئيساً للجنة الاقتصاد والتجارة والصناعة والتخطيط في مجلس النواب ووزيراً للاقتصاد والتجارة في سنة 2003، وأثناء ترؤسه الوزارة تم إصدار سندات يوروبوند بقيمة 2.45 ملياري دولار.
مع الرئيس الشهيد
ردّد باسل مرارا أن المصادفة لعبت دوراً بارزاً في حياته، فتعرّفه الى الرئيس الحريري كان إحدى تلك المصادفات. وخلال وجوده في وزارة المال، من عام 1993 وحتى 1999، تعرّف فليحان الى الرئيس الحريري عن طريق الوزير فؤاد السنيورة. وتوطدت علاقة فليحان بالرئيس الحريري وحظيَ بثقته، وكان الأخير يستشيره في مختلف الشؤون الاقتصادية. وفي صيف عام 2000، وفي عمر الـ 37، اختاره الرئيس الحريري لترشيحه على لائحته الانتخابية لمدينة بيروت عن مقعد الطائفة الإنجيلية، التي تندرج ضمن خانة طوائف الأقليات.
وفي أيلول من العام 2000 أوكل رئيس الحكومة رفيق الحريري حقيبة الاقتصاد والتجارة للنائب باسل فليحان وتابع عمله بزخم حتى استقالة الحكومة في نيسان 2003. وعرف فليحان بجدارته الاقتصادية ورؤيته المنفتحة المتطورة نظراً للخبرة التي اكتسبها من صندوق النقد الدولي. وفي عهده اتُّخذت أولى خطوات تحرير الاقتصاد اللبناني، إذ تم توقيع اتفاقية الشراكة الأوروبية-الشرق أوسطية التي تعتبر مدماكاً في خطة الإصلاح الاقتصادي، وتم بموجبها إلغاء التعرفة الجمركية تدريجياً وفتح الأسواق.
في اليوم المشؤوم، يوم 14 شباط 2005، جلس باسل فليحان الى يمين الرئيس رفيق الحريري في سيارته، معا «استودعا لبنان وشعبه» ليدوّي تفجير هزّ لبنان بأسره ولا تزال ارتداداته بعد تسع سنوات تستأثر بحياة اللبنانيين اليومية، اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا. في قلب الشعب اللبناني غصّة، وفي ضميره واجب يدفعه نحو المطالبة بالحقيقة.
.. على درب الجلجلة
درب الجلجلة الذي سلكه باسل فليحان يكاد يكون أقسى من عذابات اللبنانيين في هذه السنوات التسع، بعد صراعٍ مع الألم استمر 64 يوماً، لمعاناته من حروق بالغة طالت 95% من جسمه وجروح أصيب بها في عملية اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري. في اليوم التالي للاغتيال نقل فليحان الى مستشفى بيرسي العسكري، الواقع في إحدى ضواحي العاصمة الفرنسية، المتخصصة بمعالجة الحروق. وطوال هذه الفترة كانت حال فليحان سيئة جداً ولكن مستقرّة، اذ كان يتم تخديره بالمورفين معظم الأوقات. كما خضع لعمليتين جراحيتين لإزالة طبقات الجلد المحروق، وكانت حروقه البالغة أحدثت تشوهات كبيرة في وجهه وجسمه، من دون أن يُعرف ما إذا كان مردّها الى استخدام النابالم المحرم دولياً في المتفجرات التي استخدمت لاغتيال الرئيس الحريري.
لم تفارق يسمى زوجها طوال فترة علاجه في المستشفى، وأبى اللبنانيون أن يعيشوا يومياتهم العادية بعيدا منه، فكانوا يضيئون له الشموع ويرفعون الصلوات على نية شفائه. لكن الله «استعاد أمانته» من دون أن يترك سبيلا للمجرمين للهرب. وشهد فليحان، وإن كان راقدا في المستشفى فاقدا وعيه، على دحر الوصاية السورية من لبنان فخرجت بسلاحها المُهترئ تحت ضغط اللبنانيين الأحرار في ثورة الأرز، لكنها لم تسحب من الوطن الصغير أنيابها ومخالبها تحضيرا لسلسلة اغتيالات كانت بدايتها مع الشهيد الحي مروان حمادة.
عائلة الوزير الشهيد الشاب الذي أسلم الروح عن عمر 42 عاما، تستذكره في كل يوم، على الرغم من ابتعاد الزوجة والولدين عن لبنان، يتواصلون معه من خلال الكتابة، لتخرج مكنونات القلب الى العلن. تعيش عائلة باسل فليحان اليوم في جنيف، استشهد الأب وكان ولداه لا يزالان طفلين، اليوم رينا نور تبلغ 13 عاما وريان لم يتعدّ العشر سنوات، في العام 2005 لم يعرفا معنى الموت أما اليوم فهما بحاجته، لذا لا يتوقفان عن كتابة الخواطر، يعرفان أن والدهما يدعمهما ويرافقهما في كل خطوة في الحياة.