لماذا كل هذا التفجع على دخول لبنان مرحلة الفراغ الدستوري… والدستور نفسه هيأ له عهده ومهد له؟
لو كانت آلية انتخاب الرئيس اللبناني ديمقراطية بالمعنى المتعارف عليه للكلمة لنيط انتخابه بآلية اقتراع مباشر من كل شرائح الشعب وطوائفه، ولما حصر الانتخاب بـ128 نائبا فقط.
وحتى الـ128 نائبا لا يعتبرون ناخبين فعليين لرئيسهم في ظل نظام انتخابي يحصر بثمانية أقطاب فقط قرار الانتخاب.
ثمانية رؤساء كتل برلمانية – تحديدا سعد الحريري ونبيه بري وميشال عون ووليد جنبلاط وسمير جعجع وسليمان فرنجية وأمين الجميل ومحمد رعد (بالوكالة عن حسن نصر الله) يختزلون مواقف كل نواب لبنان و«يمونون» على أصواتهم مسنودين بنظام «ديمقراطي – توافقي» يطيح بالقاعدة العددية الصرفة للآلية الديمقراطية لصالح شكل من أشكال التشاور – المباشر وغير المباشر – بين الأقطاب الثمانية الكبار.
منتدى الثمانية الكبار هو النسخة اللبنانية – والمختصرة – لتجمع «لويا جيرغا» الأفغاني. ورغم محدودية عدده، لا يقل عن نظيره الأفغاني عقدا ومشاكل بدليل رهنه انتخاب الرئيس اللبناني الجديد لمصالح أقطابه المتضاربة – والمتناقضة أحيانا – ناهيك عن التزاماتهم الإقليمية أيضا.
انطلاقا من هذا الوضع، المعيش حاليا جلسات انتخاب محبطة النصاب للرئيس اللبناني الجديد، يبدو أن «الثمانية الكبار» متفقون على من «لا» يريدون رئيسا لبلدهم ومختلفون على من يريدون. والعقدة المربكة على هذا الصعيد أن من «لا» يريدون هما المرشحان الأبرزان لسدة الرئاسة، أي سمير جعجع وميشال عون.
قد يعتبر هذا الإشكال نتيجة طبيعية لتقديم أرباب النظام اللبناني «توافقيته» (المذهبية) على ديمقراطيته (العددية)، ما يوحي بأن أقصى ما يمكن تحقيقه من شعار انتخاب رئيس «صنع في لبنان» هو الاتفاق على جرعة «لبنانيته» ونسبتها فقط… وأقطاب «اللويا جيرغا» اللبنانية يعلمون تماما أن المواد الأولية لأي صناعة لبنانية، وخصوصا «الصناعات السياسية»، مستوردة بمعظمها من خارج الحدود.
وهنا تبرز عبثية تسجيل عدد من يحضر جلسات الانتخاب الرئاسي من نواب «الشعب» ومن يتغيب عنها أو يقاطعها، فانتخاب الرئيس اللبناني تحول، في عهد ما بعد اتفاق الطائف، من ممارسة ديمقراطية إلى «طبخة» توافقية يشرف على إعدادها أقطاب «اللويا جيرغا» اللبنانية على أمل أن تحظى بمباركة إقليمية مؤثرة.
هذا التقليد يفسر إلى حد كبير مشاعر اللامبالاة السائدة حاليا في الشارع اللبناني ليس فقط حيال عملية الانتخاب بل أيضا حيال «استحقاق» الفراغ الرئاسي الذي بدأ الكثير من أقطاب «اللويا جيرغا» يخففون من وطأة تداعياته الدستورية والتشريعية بل ويسوقونه شعبيا بتعديل تسميته من «فراغ» إلى «شغور».
مرة أخرى تثبت إشكالات انتخاب رئيس لبنان العتيد أن متطلبات «توافقية» نظامه الديمقراطي تحول دون تجاوز المؤثرات الخارجية على الانتخاب فيما تعرقل «المؤثرات» الخارجية فرص التقاء أقطاب «اللويا جيرغا» اللبنانية حول طاولة حوار جدي (ولا نقول وطني) للاتفاق على حجم «الجرعة اللبنانية» في مواصفات الرئيس الموعود.
استمرار الخلاف حول لون الرئيس اللبناني العتيد ومواصفاته قد يفرز تطورين لن يكونا في صالح «الجرعة اللبنانية» المفترضة في الرئيس الجديد:
– الأول احتمال تحول عقدة الانتخاب من أزمة سياسية إلى أزمة نظام قد تستوجب إعادة النظر بدستور الطائف (في ظرف أبعد ما تكون فيه الدول العربية «متفرغة» لحلحلة مشكلات التركيبة السياسية اللبنانية رغم اهتمامها بها).
– والثاني أن يتطلب كل استحقاق رئاسي لبناني «استدراج» وساطات خارجية تجعله رهين التوافقات الخارجية أكثر من الخيارات الداخلية، وهو قدر يصعب على واقع لبنان الجغرافي – السياسي تجاهله خصوصا في مناخات الانقسام العامودي الحاد بين تياري «14 آذار» و«8 آذار» وخلفياته المذهبية.
في سبعينات القرن الماضي، كان يحلو للرئيس السوري الراحل حافظ الأسد أن يردد أن السوريين واللبنانيين «شعب واحد في بلدين».
هذا في السبعينات. أما في القرن الحادي والعشرين فقد تحول اللبنانيون أنفسهم إلى شعبين في بلد واحد.