IMLebanon

بلد الفريق وبلدان الفرقة

العام 1936 تقرر عقد الدورة الاولمبية في برلين، فقرر هتلر أن تُبهر المانيا العالم. بُني ملعب يتسع لمئة الف إنسان. رُكِّبت آلات نقل تلفزيونية وإذاعية تُستخدم للمرة الأولى. نُظِّفت شوارع عاصمة الرايش “حتى من الغجر الرومانيين”. وقف الألمان صفاً واحداً ينشدون “المانيا فوق الجميع في هذا العالم”، فربما كان أحد فوقها في العالم الآخر.

بعد ثلاث سنوات قاد هتلر الألمان صفاً واحداً إلى الحرب، ليضع المانيا فوق اوروبا الشرقية وفرنسا وروسيا ويحاول من بعدها عبور قناة السويس نحوالعراق والنفط، فكلف ذلك اشهر جنرالاته اروين رومل. لكن بريطانيا ارسلت تباعاً ثلاثة من ماريشالاتها: اوكلينك، ويفل ومونتغومري. ما بين طبرق والعلمين هُزِم الألماني الذهبي رومل وصُدَّت المانيا عن عبور السويس. وفي لينينغراد هَزم الروس هتلر، كما هزموا نابوليون من قبل في موسكو، التي احرقوها في وجهه، فأرعبت الحرائق جنوده. وفرنسا التي قادها “مبعوث العناية الإلهية” فيليب بيتان إلى الاستسلام، قادها مبعوث الكرامة الوطنية شارل ديغول إلى الحرية.

لكي يضمن الحلفاء عدم قيام المانيا العسكرية مرة ثالثة، دكّوا مُدُنها وقسموها دولتين: شرقية يحتلها السوفيات، وغربية يحتلها الغربيون. عندما سقط جدار برلين العام 1989 ارتعد الغرب والشرق. في مذكرات ميخائيل غورباتشوف وفرنسوا ميتيران وكوندوليسا رايس، حكاية متشابهة عن الرعب الذي دبّ في أوصال العالم: يا إلَهي، هل يمكن أن نترك الألمان يعودون فريقاً واحداً من جديد؟

الفريق! هذا هو سرّ الألمان الذين سمَّتهم روما “البرابرة”، وهم يهجمون عليها. خلال الحرب دُمِّرت، في ما دُمِّر، مصانع فولكسفاغن. وبعد انتهائها صار عمالها السابقون يقبلون أي عمل يعثرون عليه، ثم، مساء كل يوم، يلتقون فريقاً متطوعاً لإعادة بنائها. الان هي أكبر شركة للسيارات في اوروبا. وإذا انتبهت إلى إعلان “غولف” الأخير، فهو يقول إنها “مؤلفة من 30 الف قطعة، يجب أن تعمل كقطعة واحدة”. فريق واحد!

في نهايات الحرب دكّت 1300 طائرة حليفة مدينة درسدن. سرب وراء سرب، غارة وراء غارة طوال اربعة أيام حتى تحوَّلت المدينة إلى ركام وجثث. ومن بقي حياَ كُلِّف إحراق الموتى. أعاد الألمان بناء برلين ودرسدن وكولونيا وميونيخ وفرانكفورت وشتوتغارت وهامبورغ حجراً حجراً ولوحة لوحة وقبّة قبّة.

بعد الحرب، توزع علماء المانيا من فيزيائيين وكيميائيين، على أميركا والاتحاد السوفياتي، يبنون القوة النووية للدولتين. إلى أين هرب النازيون؟ إلى الارجنتين حيث اندسّوا تحت اسماء مستعارة في ازقَّة بوينس ايرس. نحن، في العالم العربي، طلبنا فئة واحدة من خبراء الالمانيتين: رجال المخابرات والتعذيب. وإليك النتيجتين، البناء والانهيار. بلاد ذهب إليها اينشتاين واوبنهايمر وفون براون، وبلاد جاء إليها جلاوزة اريش هونيكر من المانيا الشرقية. ومثل هذا التوزيع لايمكن أن يؤدّي إلاَّ إلى نتيجة واحدة: ذهاب السوفيات إلى الفضاء والاميركيين إلى القمر، ونحن إلى داعش. تأمل الخيارات التي امام هذه الأمة.

كان “المونديال”، على نحو ما، عرضاً لخصائص الشعوب. شبه القارة البرازيلية تقدم للعالم، على رغم هزيمة الملعب، دولة جديدة خارجة من الفقر والتخلّف نحو العصر الصناعي، وترأسها امرأة. وامرأة ترأس الارجنيتن. وسيدة ترأس الجارة الجميلة، تشيلي. وقارة بأكملها لم يعد فيها أوغوستو بينوشيه أو تروخيللو أو فالديز أو سوموزا.

بعد عقود من الديكتاتوريات والتخلُّف والفقر المريع وجمهوريات الموز، عثر اللاتينيون على طريق النمو والتطور. لا يزالون في البدايات، مفارقة بجارتي الشمال، الولايات المتحدة وكندا. لكن المسافات التي قطعت مثيرة أو مذهلة. لن تقنع الأرجنتين بسهولة بالكف عن الغناء ورقص التانغو. وممَّ تشكو هذه الحركات الفاضحة؟ لقد حولت إلى صناعة مثل الفلامنكو الاسباني. يجب أن ترى كم من اللاتينيين يعملون اليوم في الدولة الاسبانية الأم، على رغم ازمتها الخانقة. ومن يدري، فقد يتعلم اللاتينيون ايضاً ذات يوم ثقافة الفريق، لا اللاعب. انتخب الارجنتينيون كارلوس منعم رئيساً لأنه كان لاعب كرة جيداً. وكادوا أن يقترعوا لمارادونا، لولا سمعة المخدرات. الشعوب الغنائية تحب البطل. أحب الارجنتينيون خوان بيرون حتى انتخبوا زوجته الثانية رئيسة على البلاد. كانت السنيورة اليزابيتا، رقاصة من قبل. فئة ثالثة. وكانوا قد انتخبوا زوجته الأولى ايفيتا، قديسة وشفيعة. ولا يزالون.

الفراو أنغيلا ميركل لاتستطيع ان تصرف بنساً واحداً على فقراء المانيا، مهما شاءت. الموازنة هنا ملك الدولة لا ملك الرجل وزوجته. والرئيس الالماني السابق أُرغم على الاستقالة لأنه قبل قرضاً عقارياً بفائدة متدنيّة. لكن في إمكان حكومة الفراو ميركل أن ترفع حجم التبادل التجاري مع روسيا إلى 280 مليار دولار. إنها واحد من الفريق الذي دفع 500 مليار دولار ثمن إعادة الوحدة. وإذا لاحظت الضريبة الإضافية التي تدفعها في برلين على فاتورة العشاء، فإن جزءاً منها لتسديد كلفة انضمام الشرق الفقير إلى الغرب الموسر.

جاءت الفراو ميركل من الشرق البسيط لتحكم أقوى اقتصاد اوروبي، حيث يزيد دخل الفرد على 40 الف دولار في السنة. إنه أربعة آلاف في الدول العربية، التي استعانت بخبراء المخابرات من المانيا الشرقية. كانت الذريعة خبراء من أجل الحرب مع اسرائيل. ولا حاجة الى تكرار ما حصل. لكن يحسن بنا تأمل الليالي الماضية في غزة: العرب مشغولون على جبهاتهم الداخلية حيث الموت أعم والقتل اوسع. ويقدمون لفلسطين اليوم التأييد التلفزيوني بدل الدعم الإذاعي. لذلك، قال عبدالله القصيمي قبل نصف قرن “العرب ظاهرة صوتية”. فقدوا فلسطين حتى كذريعة. في الماضي كان اسمها يُختم على كل خطاب وبيان وسرقة. لم يعد ذلك ممكناً الآن. الفلسطينيون يموتون جوعاً في مخيم اليرموك. وجنود داعش بالأعلام السود، ذاهبون إلى احياء الخلافة بدعوة سوداء حالكة مثل ظلام المرحلة وعتم المستقبل.

هكذا حاول بول بوت مرة إعادة بناء كمبوديا. قرر اعدام ثلاثة ملايين إنسان وعرض جماجمهم في بنوم بنه. العدو الداخلي اولاً. تبيده، ثم تبدأ من جديد. أبادت “الثورة الثقافية” في الصين كل من يسمع الموسيقى باعتباره منحطاً وعميلاً للغرب. داعش تنقل إلى العراق وسوريا حضارة طالبان وآفاق الملاَّ عمر، بدءاً بمنع الموسيقى.

اخترع العالم كرة اخرى تصرفه عن العبث بالكرة الكبرى. أقام الملاعب وطوَّر الأقمار الصناعية وبذل مئات الملايين من أجل أن تهتف الناس لبيليه ومارادونا وموللر بدل هتلر وهولاكو. تفرِّجُ حروب الملاعب عن غرائز حروب الدماء التي لم تعد قائمة إلاَّ في هذا الشرق. مئة عام مضت على الحرب الكونية الأولى هذا الشهر، وحروب المنطقة لم تتوقف. أيتام ومجاعات وهرب كأنك في العام 1914.

البلقان الذي اشعل تلك الحرب صار مستقراً. اوروبا التي فتّتتْها الحربان صارت دولة موحدة. الخنادق والجدران والاسوار والحدود صارت طرقا عريضة لا نهاية لها. منذ 1914 إلى اليوم قطع العالم في الطب والتكنولوجيا والعناية والكفاية ما يعادل مسيرة عشرين قرناً. نحن ليس لنا توقيع واحد على اختراع مسمار. بقعة من الأرض فيها النيل والفرات ودجلة وتعاني الجفاف. لبنان الذي كان “أحدث” الدول العربية يعاني العطش بعد الكهرباء ويبحث عن رئيس للجمهورية. وقد الغيت فيه مباريات كرة القدم لئلا تتحول مذبحة بروح رياضية. جلس نحو 71 الف متفرج من انحاء العالم في ملعب كوبا ماراكانا. فرح البعض وبكى البعض الآخر وهتف الجميع. لكن بلا مذابح. الجمهور هنا راق مثل فريقه. جاء يتفرج ليس على الفوز بل على الاستحقاق. وبهذا المعنى كان الفريق الارجنتيني شريكاً موازياً في هذا العرض الرائع لبطولة الرؤوس والاقدام. لكن الناس لا تحب المرتبة الثانية. مثلها مثل المرتبة الاخيرة.

تروي أستاذة صينية في هارفرد أن والدها أوصلها إلى مدرستها الثانوية في حفل التخرج. وفي طريق العودة إلى المنزل رأته واجماً، فسألته ألم يفرح بحيازتها المرتبة الثانية. قال الأب: “إياك أن تكرري علينا عار المرتبة الثانية بعد اليوم”.

* يغيب مقال الأربعاء لثلاثة أسابيع من الأسبوع المقبل.