ماذا بعد جلسة الأمس؟ تصدّرَ هذا السؤال كلّ النقاشات السياسية وحتى البوانتاجات الانتخابية الرئاسية، لأنّ المشهد الذي رسَت عليه الأمور بين 8 و14 آذار والكتلة الوسطية مرشّحٌ أن يحافظ على ثباته وجموده حتى انتهاء المهلة الدستورية، ما يعني الدخول في الفراغ المحتَّم بعد 25 أيار، إلّا في حال تدخّل الخارج لكسرِ هذا الجمود وتحريك الوضع الداخلي ودفعِ الأمور نحو انتخاب رئيس جديد، ومن دون هذا التدخّل لا أملَ في تحقيق أيّ اختراق، كون 14 آذار لن تتراجع عن إيصال مرشّح من صفوفها، ولا 8 آذار، لا بل حتى لو نجح أحد الفريقين في استمالة الكتلة الوسطية لمصلحته بغية تأمين الـ65 صوتاً، فإنّه سيصطدم بحائط النصاب (86) الذي لا يمكن تأمينه إلّا بالتوافق بين طرفَي النزاع.
جلسة الأمس مرشّحة للتكرار ما لم تأتِ «كلمة السِرّ» من الخارج، على غرار ما حصل في الحكومة، حيث انقلبت المواقف بين ليلة وضحاها رأساً على عقب، فتحوّل المستحيل إلى ممكن، وبالتالي السؤال الذي يطرح نفسه اليوم: هل التسوية الحكومية كانَ من ضمن أهدافها تعبئة الفراغ الرئاسي؟ وهل الخارج سيضغط بكلّ قوّته لمنع الفراغ؟ وهل قوى 14 آذار مستعدّة للتحوّل من موقع المرشّح إلى موقع الناخب؟ وفي حال تعاملت هذه القوى بواقعية مع الضغوط الدولية وارتضَت بدور الناخب، ماذا عن قوى 8 آذار؟ وهل سيفوّت رئيس تكتّل «التغيير والإصلاح» النائب ميشال عون الفرصة على نفسه مجدّداً؟ وهل «حزب الله» في وارد التضحية بعون؟ وما المواصفات التي يضعها الخارج للرئيس العتيد؟ وهل المناخات التي أنتجَت التوافق الحكومي ستعيد إنتاج التوافق الرئاسي؟
وفي ظلّ غياب الأجوبة عن كلّ التساؤلات أعلاه، سيبقى «البلوكاج» الرئاسي سيّد الموقف، ولكن من دون أن يعني ذلك غياب الحراك الداخلي الذي سيتوزّع باتجاهات عدّة: أوّلاً، سيعيد كلّ فريق قراءة نتائج الجلسة الأولى التي في ضوئها يقرّر ما إذا كان سيحافظ على نفس التكتيك أو يلجأ إلى تكتيك آخر. ثانياً، سيحاول كلّ فريق الانفتاح على الكتلة الوسطية في محاولة لجذبِها واستقطابها. ثالثاً، سيستطلع كلّ فريق المناخات الخارجية، في محاولة لتلافي «طبخة رئاسية» على حسابه.
مصادر نيابية وسَطية
وتوقّعت مصادر نيابية وسَطية بارزة لـ»الجمهورية» أن يكون سيناريو جلسة الاربعاء المقبل نسخة مكرّرة عن جلسة الأمس مع اختلاف في المشهد داخل 14 آذار التي ستقع على الأرجح في مشكلة مرشّحيها، بعد إعلان جعجع أنّه مستمرّ في ترشيح نفسه، وإذا كان عدد كبير اليوم من نوّاب 14 آذار قاموا بواجبهم مع جعجع فإنّ السؤال الكبير الذي سيُطرح: ماذا عن المرشّحين الآخرين الذين التزموا في جلسة أمس التصويت لمصلحته، بينما هم يعتبرون أنفسَهم مرشّحين أساسيّين داخل 14 آذار كالرئيس الجميّل والنائب بطرس حرب والنائب روبير غانم، عدا المرشّحين المستورين، فهل سيخوضون معركتهم الشخصية أم سيخوضون معركة جعجع حتى النهاية؟ وهل سيُحرجهم هذا الأمر لا سيّما أنّ من بينهم مَن استاء من خطوة جعجع الاستباقية عندما قطع عليهم الطريق ورشّح نفسه؟»
أمّا على ضفّة 8 آذار، فسألت المصادر: «هل سيترشّح عون قبل جلسة الأربعاء المقبل فتعتبره 8 آذار مرشّحها الوحيد؟ وهل سيستطيع عون تأمين التوافق حوله بعدما أكّد مراراً وتكراراً أنّه لن يترشّح إلّا بعد أن يتوافق الجميع عليه، وهو ما ليس متوافراً حتى الساعة؟.
وأضافت المصادر: «ليس المهم أن تُسقط 8 آذار أوراقاً بِيضاً، بل المهم أن تصبح القلوب بيضاً. ودعت إلى عدم استبعاد أيّ أمر، خصوصاً أنّ هناك مُتّسعاً من الوقت حتى جلسة الأربعاء المقبل»
جلسة الانتخاب
ومثلما كان متوقّعاً، لم ينجح مجلس النواب في جلسته أمس في انتخاب رئيس للجمهورية من الدورة الأولى، بسبب عدم حصول أيّ من المرشّحين على أصوات ثلثي مجلس النواب، وبالتالي أرجأ رئيس المجلس نبيه بري الجلسة الى الثانية عشرة ظهر الأربعاء المقبل، بعدما طيّر نوّاب 8 آذار النصاب عند فرز الأصوات، للحؤول دون انعقاد دورة انتخابية ثانية. وأوضح عون أنّ تكتّل «التغيير والإصلاح» قرّر الانسحاب من قاعة المجلس بعد انتهاء الدورة الأولى بانتظار الإجماع حول مرشّح.
وحصد المرشّح رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع 48 صوتاً من أصل 124 نائباً حضروا جلسة الانتخاب، والمرشّح النائب هنري حلو 16 صوتاً، في حين غاب النوّاب: سعد الحريري وعقاب صقر وخالد الضاهر (بداعي السفر) عن الجلسة والنائب إيلي عون بداعي المرض.
واقترع 52 نائباً بأوراق بِيض، ألغِيت 7 منها، توزّعت أصواتها بين صوت للرئيس الشهيد رشيد كرامي وصوت للرئيس الشهيد داني شمعون وصوتين لنجله طارق، وصوت لـِ الياس الزايك وصوت لـِ جيهان طوني فرنجية (أقرّ لاحقاً النائب زياد أسوَد أنّه هو من صوّت لها)، ومغلّف، في رسائلَ سياسية اعتبرَتها «القوات» إفلاساً سياسياً وتصرّفات عكسَت مشهداً مقرفاً ومُقزّزاً
الجميّل
وفيما نال رئيس حزب الكتائب أمين الجميّل صوتاً واحداً خلال جلسة الاقتراع، أوضحَ الأخير مساءً أنّه لم يكن مرشّحاً اليوم، وأنّ نوّاب الحزب صوّتوا لجعجع، وأشار إلى أنّه «لا يعرف مَن وضع اسمَه، ولكنّ هذا العمل مدسوس، وهو عمل لا يليق بالوضع الديمقراطي البرلماني».
جعجع
في غضون ذلك، شدّد المرشّح جعجع الذي واكبَ مجريات جلسة الانتخاب من معراب على أنّه مستمرّ في المعركة ولن يذهب إلى تسوية، ويجب أن يترشّح مَن يريد. واعتبر ما حصل اليوم (أمس) انتصاراً كبيراً، على رغم تصرّفات البعض غير المسؤولة بهدف «التشويه». وقال: «كنت أتمنّى أن يكون للفريق الآخر مرشّح لتكون الانتخابات طبيعية».
حلو لـ«الجمهورية»
من جهته، أكّد المرشّح هنري حلو لـ«الجمهورية» استمراره في المعركة، وتصريحات نوّاب «اللقاء الديموقراطي» كانت واضحة لجهةِ أنّ «ترشيحي ليس مناورة، بل هو ترشيح جدّي، وسنكمل به حتى النهاية، من خلال المسار الوفاقي الذي ترشّحنا على أساسه».
وإذ رفض حلو التكهّن بمسار الجلسة المقبلة واستباق الأمور عبر الحديث عن تعطيل النصاب، تخوّف من أن يؤدّي خطر تطيير النصاب، نتيجة الاصطفاف الحاصل، إلى الفراغ، معتبراً أنّ الحلّ يكمن في استكمال نهج الحوار والمشاركة الذي اطلقناه، والانفتاح على الجميع.
ورأى حلو أنّ ما حصل أمس إيجابي «بعد تصريحات عدّة استبعدت انعقاد الجلسة، إلّا أنّها انعقدت بروح ديموقراطية، وعبّر كلّ نائب عن قناعاته، ونأمل في أن نستمرّ في الاتّجاه نفسه الاسبوع المقبل».
واعتبرَ أنّ الاوراق البيض تدخل ضمن اللعبة الديموقراطية، فهي أفضل من عدم حضور الجلسة».
حمادة
وقال النائب مروان حمادة لـ«الجمهورية»: إنّ فريق 8 آذار يريد رئيساً على نمطه، رئيساً يغلّب منطق القوّة على منطق القانون، ولا يبدأ في عهده حيث انتهى الرئيس ميشال سليمان، بل يعود بنا إلى ما قبل إعلان بعبدا، وهذا يعني أنّنا
سنجهد جهداً شاقّاً وقوياً قبل أن نصل الى انتخاب رئيس يشبه لبنان وعبر انتخابات حقيقية، لا بالأوراق البِيض ولا بالبطاقات الحمر، لأنّ الأولى تمثّل الفراغ والأخرى تعبّر عن الحقد. وإلى أن نصل الى نضوج هذه الحالة، أتوقّع أكثر من جلسة وجلستين وثلاث جلسات، أتوقع القليل من الجلسات والكثير من التشاور».
شمعون لـ«الجمهورية»
من جهته، قال رئيس حزب الوطنيين الأحرار النائب دوري شمعون لـ»الجمهورية» إنّ «ما حصل أمس كنّا نتوقّعه، والنتائج لم تفاجئنا، على أمل أن نستطيع انتخاب رئيس جديد ضمن المهلة الدستورية». ورفضَ شمعون التعليق على ترشيح حلو، وقال: «كنّا ندرك أنّ النائب وليد جنبلاط لن يصوّت لجعجع وأنّه سيرشّح أحد نوّاب كتلته». واعتبر «أنّ من حقّ عون أن يترشّح، ومن حقّنا كذلك أن لا ننتخبه»، وقال: «من الواضح أنّ الفريق الآخر لا يملك الأصوات الكافية ليطرحَ مرشّحاً، فهو يحاول اللعب على عامل الوقت ليس إلّا». واعتبرَ شمعون أنّ «مَن صوّت لطارق وداني، فقد فعلَ ذلك لتحقيق مكاسب سياسية مُعيّنة تُستعمَل ضدّ جعجع».
الوليد سكّرية لـ«الجمهورية»
وقال عضو كتلة «الوفاء للمقاومة» النائب الوليد سكّرية لـ«الجمهورية»: «لقد عبّرَت جلسة الأمس عن العمل الديموقراطي بالشكل الصحيح، وكلّ نائب مارس رأيه بحرية مطلقة، فجعجع فرضَ نفسه على قوى 14 آذار كمرشّح، فالتزموا معه كي لا يتفكّك هذا الفريق، ولكنّ الآخرين لا يريدونه فحصلَ على 48 صوتاً فقط.
أمّا بالنسبة إلى مسار الجلسة المقبلة فلا نعلم مَن هُم المرشّحون وما هي مواقف الكُتل منهم، ولكنّ ما ندركه هو أن لا فريق 8 آذار لديه الثلثان ولا فريق 14 آذار لديه الثلثان، وإذا قاطعَ أحدهما الجلسة فلن تنعقد. وفي النهاية، لا بدّ من توافقهما على مرشح واحد ينال ثلثي الأصوات. فإذا لم يُطرح مرشّح توافقي في الجلسة المقبلة فكلّ الاحتمالات تصبح واردة: أن يتكرّر سيناريو جلسة الأمس، وأن لا تعقد الجلسة المقبلة بفعل المقاطعة.
وأضاف: «لقد علّمتنا التجربة أنّ اللبنانيين لم يحلّوا مشكلاتهم بأنفسهم، فالتدخّل الخارجي حاصل منذ الطائف وحتى اليوم، وحتى في خلال الحرب الاهلية، ولا نعرف اليوم إذا سيتمكّن اللبنانيون من الوصول الى تفاهم ما باستقلال وقرار لبنانيّ كامل، أم سينتظرون تدخّلاً إقليمياً ودولياً لمساعدتهم».
مصادر فاتيكانية
في هذا الوقت، كشفت مصادر قريبة ومُطّلعة على أجواء الفاتيكان لـ»الجمهوريّة» أنّه يراقب الوضع في لبنان بشكل دقيق، وأنّه أصبح أكثر حذراً بعد الجلسة الأولى لانتخاب الرئيس، وأكّد أنّ الكنيسة المارونيّة ستُكثّف وبدعمٍ من الفاتيكان ضغطَها للتأثير على النواب المسيحيّين لإنتخاب رئيس جمهورية جديد من بين الأسماء المطروحة بغية تغليب الطابع الداخلي على التسويات الخارجية».
ولفتت المصادر إلى أنّه «نتيجة تواصل الفاتيكان مع عواصم القرار التي تتواصل مع بعضها البعض، فإنّ الفراغ، إن وقعَ، سيكون فراغا «محسوباً»، بمعنى أنّه لن يؤثّر سلباً على مركز الرئاسة الأولى ولا على الطائفة المارونية، لأنّ السلطة الحاليّة لن تمارس صلاحيات رئيس الجمهورية الأساسية، وذلك في انتظار نضوج التسوية الإقليمية لملفّات المنطقة، ولبنان من ضمنها».
الراعي إلى روما
إلى ذلك، علمت «الجمهورية» أنّ البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي سيغادر لبنان اليوم متوجّهاً إلى روما للمشاركة في اليوبيل المئوي الأوّل لبناء كنيسة مار مارون في المدرسة المارونية، بمشاركة رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان، مساء السبت 26 الجاري في مبنى المدرسة المارونية، على أن يحضر إعلان قداسة البابا يوحنا بولس الثاني الأحد، ليسافر بعدها إلى مدينة لورد الفرنسيّة، حيث يلتقي الجالية اللبنانية هناك ويشارك في نشاطات رعوية.
ولم تستبعد مصادر مطلعة أن «يُجري الراعي جولة مباحثات رئاسية مع مسؤولين في الفاتيكان وفرنسا وزعماء الدول الغربية التي سيلتقيها، على اعتبار أنّ هذه الدول مهتمّة بإنجاز الاستحقاق الرئاسي حفاظاً على دور المسيحيين في الشرق». وعلمت «الجمهوريّة» أيضاً أنّ اتّصالاً مطوّلاً لم يعلَن عنه، قد حصل مساء الأحد بين الرئيس سعد الحريري والبطريرك الراعي، هنّأه فيه بعيد الفصح، وناقشا الأوضاع العامّة، والاستحقاق الرئاسي، حيث تمّ التأكيد على انتخاب رئيس في الموعد الدستوري المحدّد، وجدّد الحريري تأكيده أنّه سيعمل كلّ ما بوسعه لإنجاح هذا الاستحقاق المهمّ للمسيحيين واللبنانيين. إشارة إلى أنّ الحريري قد يلتقي الراعي في روما يوم الأحد المقبل».
وسيزور الراعي قبل سفره اليوم رئيسَ مجلس النواب لشكرِه على الدعوة إلى جلسة الانتخاب التي لطالما نادَت بها بكركي.
إلى ذلك، أكّدت مصادر بكركي لـ»الجمهورية» أنّ «بكركي أبدَت استياءَها الشديد من تطيير النصاب في الجلسة الثانية للانتخاب»، معتبرةً أنّ «هذا الأمر يمثّل تملّصاً من بعض الأفرقاء المسيحيّين من الاتّفاق الذي حصل في بكركي برعاية البطريرك، وتعهّدت فيه مختلف الكُتل المسيحية بتأمين النصاب في جميع الدورات، وليس في الدورة الأولى فقط». واعتبرَت المصادر أنّ «هذا الأمر مؤشّر خطير ويدلّ على نيّة في تطيير الجلسات اللاحقة والذهاب نحو الفراغ، والمستغرَب أنّه أتى من أطراف مسيحيّة يجب أن تكون حريصة على موقع الرئاسة».
مجلس وزراء غداً
وفي هذه الأجواء، دُعِي مجلس الوزراء إلى الاجتماع عند الرابعة من بعد ظهر غدٍ في السراي الحكومي برئاسة الرئيس تمّام سلام، وعلى جدول أعماله 30 بنداً معظمها من القضايا الإدارية والمالية الروتينية، وهو خالٍ من التعيينات الإدارية التي لا تمرّ إلّا في جلسةٍ برئاسة رئيس الجمهورية.