IMLebanon

بناء التحالف لقتال «داعش» يقوّض «الهلال الإيراني»؟

الكرة في ملعب حيدر العبادي وجميع القوى العراقية. إطلاق شرارة الحرب الدولية – الإقليمية على «داعش» بأيديهم. هم سيؤذنون بقيامها أو تتعثر بخصوماتهم. العالم حملهم مسؤولية قيام التنظيم. ألقى اللوم على سياسات حكومتي نوري المالكي. لكنه لم ينس تحميل إدارة الرئيس باراك أوباما قسطاً من هذه المسؤولية لأسباب عدة، على رأسها غضها الطرف عن حضور إيران الطاغي في بغداد. ثم التقاعس عن معالجة الأزمة السورية. أن ينتظر التحالف الدولي اليوم ولادة الحكومة العراقية ليبدأ تحركه يعني أن مفتاح الحرب بيد العبادي وحلفائه وخصومه السياسيين. فإذا توافقوا على حكومتهم الائتلافية التي لا تقصي أحداً تبدأ الخطوة الأولى في بناء التحالف. وواضح أن الشرط الأساس لهذا التوافق قيام توافق إقليمي على تعليق الصراع المذهبي الشيعي – السني.

استناداً إلى هذا الواقع لا قيمة للتحالف الدولي بالمعنى السياسي ما لم يقابله قيام تحالف إقليمي بين الحلفاء والأعداء على حد سواء. قيام تفاهم علني أو ضمني بين واشنطن وطهران فقط سيثير مجدداً مخاوف عربية كثيرة معنية بالحرب المقبلة، ولن يسهل التحالف. لذلك يشدد الأميركيون والأوروبيون على وجوب مساهمة شركاء في المنطقة. يسمون المملكة العربية السعودية وتركيا والأردن والإمارات العربية المتحدة. فيما يلف الغموض الموقف من دور إيران. وكذا موقف تركيا العضو في حلف «الناتو» الذي سيتولى قيادة الحرب المتوقعة. ولا يذكر دور مصر المعنية الأولى تاريخياً بأمن الشرق الأوسط الذي تعده جزءاً من أمنها الوطني وأساس الأمن القومي العربي. ويغيب الحديث عن مساهمة روسيا. كأنها ليست معنية بمصير «الجهاديين» الآتين من الشيشان والقوقاز إلى ربوع «الدولة الإسلامية»، والذين كانوا ولا يزالون يشكلون تهديداً لأمنها الوطني.

لن تكون مهمة وزير الخارجية الأميركي جون كيري سهلة في السعي إلى إشراك أهل الإقليم في التحالف الدولي. عليه أن يؤلف بين دول وقوى لم تأتلف من سنوات وعقود. أن يراعي حساسيات واعتبارات وحسابات سياسية. وليس من باب المبالغة اعتبار قيام تحالف إقليمي جدي مدخلاً إلى رسم ملامح النظام الجديد في الشرق الأوسط. يكفي هذا للتدليل على حجم العقبات التي تقف في وجه هذا التحالف. هناك بالتأكيد رغبة جماعية وتلاقي مصالح بين دول المنطقة لمواجهة «داعش» والقضاء على هذا التنظيم الإرهابي. ولكن لن يكون سهلاً على أي دولة الانخراط ميدانياً في الحرب. القوى الغربية تشدد على استحالة التدخل الميداني لأي قوات أطلسية. وتعول على القوى المحلية في كل من العراق وسورية، فضلاً عن مساهمة دول الجوار في هذه الحرب.

ليس المقصود بمساهمة دول الجوار أن تزج هذه بقوات برية في الحرب على «داعش». دون مثل هذا التدخل محاذير ربما أطاحت كل الجهود والمساعي لقيام التحالف الدولي. لا يمكن أي دولة عربية أن تتدخل ميدانياً في بلاد الرافدين حيث الميليشيات الشيعية تشارك في المواجهات الحالية وبعضها كان لأسابيع خلت يتهم دولاً عربية بأنها وراء قيام التنظيم الإرهابي. حتى رئيس الحكومة السابق نوري المالكي لم يتورع عن سوق اتهامات مماثلة. لن تتحمل القوى الشيعية تالياً تدخل دول لم تخف تعاطفها مع مطالب أهل السنة العراقيين. كما أن هؤلاء في المقابل لا يمكن أن يسكتوا على تدخل إيراني مباشر. بل هم يطالبون اليوم بألا تتدخل قوات «الحشد الشعبي» والميليشيات والمتطوعون الشيعة في الحرب على «الدولة الإسلامية» في المحافظات الغربية والشمالية. وساقوا إلى هؤلاء اتهامات بالثأر والانتقام بتدمير القرى والنواحي القليلة التي طردوا منها مقاتلي هذه الدولة. ولن يسمحوا تالياً بتدمير مدنهم كالموصل والرمادي والفلوجة وتكريت وغيرها ثمناً لدحر الإرهابيين. لا بد من مهمة عاجلة هي إعادة تشكيل الجيش العراقي. أو تقديم ضمانات دولية تحول دون موجات من الانتقام والثأر من المحافظات الشمالية والغربية.

لا يعني هذا الوضع المعقد أن لا دور لإيران في هذه الحرب. هي موجودة سياسياً بقوة، وإن تراجع حضورها لحساب أطراف أخرى كالولايات المتحدة وبعض العرب. رئيس الجمهورية الجديد ينتمي إلى فريقِ سلفِه جلال طالباني الذي قدمت له طهران الدعم طوال سنوات، وبادلها برفض السعي إلى إسقاط المالكي قبل سنتين. ورئيس مجلس النواب ليس من خصومها. ورئيس الحكومة المكلف يتساوى والمالكي بالقرب منها. أما المملكة العربية السعودية وبعض شقيقاتها فعززت حضورها وتأثيرها بحراك أهل السنة الذين فرضوا ميزان قوى جديد في الساحة السياسية والعسكرية، مستفيدين من قيام «دولة الخلافة» وسيوفها وسكاكينها. وباتوا هم العصب الحقيقي الذي سيعول عليه التحالف الدولي في الحرب الميدانية للقضاء على «داعش».

هذا التطور الذي فرض على طهران التنازل عن قسط من نفوذها وحضورها في بغداد تسعى إلى تعويضه في صنعاء. لكأن قيام حكومة في هذا البلد وذاك بات شأناً واحداً. فما تخسره بيمناها تحاول استعادته بيسراها. وإذا كانت خسارة العراق شكلت ضربة للنظام العربي والخليجي خصوصاً، فإن سقوط اليمن بأيدي الحوثيين لن يكون وقعه أقل تأثيراً من التغييرات الجذرية التي حملها سقوط نظام البعث، أو التداعيات التي أعقبت حوادث 7 أيار (مايو) 2008 في بيروت حيث تعززت اليد العليا لحلفاء الجمهورية الإسلامية في القرار السياسي والعسكري… لكن كل هذه الحسابات قد تتبدل مع اقتراب موعد الخروج الأميركي من أفغانستان واحتمال عودة «طالبان» التي لا تقل عداوة للجمهورية الإسلامية عن أبي بكر البغدادي. ستكون إيران بين فكي «قاعدتين» شرقية وغربية، وفي حرب مع «قاعدة» اليمن إذا تعذرت التسوية ولم يتراجع الحوثيون عن صنعاء وعمران والجوف. النار ستشتعل بكل أطراف «الهلال الإيراني».

يؤشر هذا إلى أن التفاهم السياسي بين إيران وجيرانها العرب في العراق لم يرق إلى مستوى استراتيجي عام، أي إلى تحول جوهري في السياسات. وسينعكس ذلك على بنية التحالف الدولي – الإقليمي ومدى فاعليته في القضاء على الإرهاب ودولته. أضف إلى ذلك أن تركيا لن يكون بوسعها الانخراط بزخم في التحالف وموجباته نظراً إلى حساسية ملف أسراها (نحو خمسين تركياً في الموصل). واضطرت إلى التصريح بأن الطائرات الأميركية التي تغير على مواقع «الدولة الإسلامية» في العراق لا تنطلق من مطار انجرليك. علماً أن النفط الذي باعه تنظيم «داعش» سواء من سورية أو العراق شكل الأتراك أبرز زبائنه. ولا حاجة إلى الحديث عن مسؤولية حكومة رجب طيب أردوغان وأجهزتها عن تدفق آلاف المقاتلين الأجانب عبر حدودها الجنوبية نحو بلاد الشام. وهي مرغمة اليوم على إعادة النظر في كل سياستها، إذ لا يمكنها تجاهل وجود دولة إرهابية على حدودها.

ولكن على رغم كل هذه المعطيات والعقبات يظل العامل السياسي هو الميزان في الجبهة العراقية. أي أن الحرب في هذه الجبهة لن تشكل تحدياً كبيراً للتحالف المتوقع. السلاح السياسي هنا هو الأمضى. بخلاف الجبهة السورية حيث تتشابك الصراعات المحلية مع الإقليمية والدولية. سيكون من الصعب على الولايات المتحدة وشركائها أن يدعموا حكومة شيعية في بغداد لمواجهة «داعش» وألا يعملوا على قيام حكومة سنية في دمشق، إذا كان لا بد من القضاء على «الدولة الإسلامية» فعلاً. هذه المعادلة يفرضها الصراع المذهبي في الإقليم. فلا مفر من اعتماد صيغة «لا غالب ولا مغلوب» إذا كانت الظروف باتت تقضي بوجوب إطفاء هذا الصراع ووقف استفحاله.

لا أحد يتوقع انعطافة جوهرية وسريعة في الأزمة السورية. وستكون الحرب على «داعش» بلا جدوى ما لم تشمل الساحة الشامية كلها بـ «دواعشها» و»قواعدها». وإذا كانت إيران لا تزال ترفض فكرة التخلي عن رأس النظام في دمشق فإن لا شيء يحول دون تبدل هذا الموقف مستقبلاً إذا كان على الإرهابيين أن ينتقلوا من جبهة العراق إلى معاقلهم في سورية حيث وجهوا في الأسابيع الأخيرة ضربات مؤلمة إلى قوات النظام في الرقة ودير الزور. لن يتحرك التحالف الدولي بفاعلية في الجبهة الغربية إذا كان الرئيس بشار الأسد سيحصد نتائج المعارك لتعزيز مواقعه، ومواقع حليفته إيران. ولا يمكن أهل هذا التحالف أن يأملوا بتعاون عربي جدي في سورية، بل حتى في العراق ما لم يكن هناك تفاهم أو ضمان لمستقبل الوضع السياسي في دمشق. لن ينخرط خصوم الأسد في حرب تؤدي إلى إعادة تأهيله. لا مفر من تسوية على غرار ما حصل في بغداد. من يتخلى عن المالكي من دون أن يخسر جل مواقعه في بلاد الرافدين، يمكنه في ظل عوامل وظروف ضاغطة أن يتخلى عن رأس النظام من دون أن يخسر كل النظام وحضوره الكامل في بلاد الشام.

فرضت إيران نفسها لاعباً أساسياً في الإقليم لا يمكن الاستغناء عن دوره، يبقى أن تترجم حضورها عاملاً فاعلاً ومطمئناً في النظام الجديد للمنطقة، مستفيدة من الخطر المحدق بها وبكل أهل المنطقة. ولن يفيدها السعي إلى لعبة المقايضة. احتواء الغرب «داعش» في سورية وترك الحسم لمرحلة لاحقة سيزيد في استنزاف طهران وحلفائها والآلة العسكرية لجيش الأسد وميليشياته. ومغالاتها في تهديد مصير اليمن قد تنتهي إلى ما انتهى إليه الوضع في العراق مع حكومة المالكي… وعليها ألا تنسى أنها أمام استحقاق داهم في أفغانستان بعد أشهر معدودة!