IMLebanon

بهدوء | بشائر سقوط ثنائية فتح ـ حماس وولادة جديدة للحركة الوطنية

في فلسطين، وفي حمأة المواجهة مع العدو الصهيوني، تتعالى أصوات ومواقف مفاجئة، مضطربة متداخلة؛ لكنها تشي بأن حركة الصراعات الداخلية، تتقدم نحو تبلور موازين قوى جديدة في مشهد فلسطيني جديد، ربما يكون عنوانه الأساسي هو نهاية حقبة ثنائيّة فتح ــــ حماس، اللتين سيطرتا، في ظل أوسلو، طويلاً، على السياسة الفلسطينية، ولكنهما الآن تتفككان داخلياً، وتنكمشان، موضوعياً، لإفساح المجال أمام دور سياسي لحركة الجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية والقيادة العامة وقوى أخرى أصغر، ولكنها فاعلة ميدانياً.

على الجانب الفتحاوي، كسر القيادي الأسير، مروان البرغوثي، المواقف التقليدية التي أوصلت سلطة رام الله إلى التهميش، بدعوته العلنية من محبسه الإسرائيلي إلى «تحرك شعبي شامل» في الضفة الغربية والقدس والـ 48 ضد العدوان والاحتلال. وهو تحركٌ ممكنٌ، تعرقله الأجهزة الأمنية الفلسطينية بقرار سياسي، تستفيد إسرائيل منه داخل الخط الأخضر؛ هذا الانشقاق بين التيار الوطني في فتح بقيادته الرمزية الممثلة بالبرغوثي، الأكثر شعبية في صفوف الفلسطينيين، والمرشح الجدي للرئاسة، وبين القيادة الفتحاوية، لا يطرح قطيعة سياسية، ولكنه يضغط في اتجاه تغييرات لا تتحملها رام الله، ومنها دعوة البرغوثي للرئيس محمود عباس وقيادات فتح والسلطة إلى «التوجه فوراً إلى قطاع غزة، للمشاركة في معركة الصمود والمقاومة ورفع الحصار وإعادة البناء».

لا يخرج البرغوثي من عباءة فتح، ولكنه يقدم برنامجاً سياسياً بديلاً، يأخذ في الاعتبار الشعار المشترك حول «دولة فلسطين» التي يمكن أن تنشأ، وفقاً لرؤية فتحاوية، من خلال الدبلوماسية، وإنما بالذهاب إلى الأمم المتحدة، و«الانضمام إلى كل الاتفاقيات والمؤسسات الأممية، وفي مقدمها محكمة الجنايات الدولية» التي يحتفظ الرئيس عباس بورقتها للاستخدام التفاوضي.

البرغوثي وضع القيادة الفلسطينية في موقف محرج للغاية؛ فهو يطالبها، في الواقع، بالخروج من تفاهماتها، الأمنية والسياسية، مع تل أبيب وواشنطن. ولعل الأسير المحبوب شعبياً، يعبّر، في ذلك، عن قلق جدي من امكانية انهيار الدور القيادي لفتح، وتهميشها نهائياً إذا ما استمر صراع العدوان والمقاومة في غزة. والبرغوثي يريد أن يقول للقيادة الفتحاوية إنها أمام خيارين سياسيين؛ فإما أنها تتوجه إلى غزة لكي تقود… أو أنها تمكث في رام الله، فتخسر الكثير من أوراقها. ولعله يعي، وهذا هو الأهم، أن الانتفاضة الفلسطينية الثالثة تتشكل فعلاً؛ فإما أن تكون فتح قائدها أو شرطيّها. وباختصار، فإن تصريحات البرغوثي تشكل صرخة تاريخية لإنقاذ فتح. ولا نعرف كيف ستتفاعل هذه الصرخة، فتحاوياً وشعبياً، لكن الأكيد هو أن فتح تواجه مأزقاً وانشقاقاً واقعياً بين الرؤى والتوجهات والمصالح.

لكن حركة الصراع على الجانب الحمساوي هي أعمق بكثير؛ إذ تتزايد الشكوك حول ما إذا كانت القيادة الحمساوية التي ارتبطت بالمحور القطري التركي الإخواني، تسيطر فعلا على قرار جناحها العسكري الأقرب إلى محور المقاومة؟ وتبدو قراءة المشهد الحمساوي غير ممكنة، من دون الأخذ بالاعتبار، الصراع الإقليمي الدائر بين المحورين. وبينما برز الحضور السوري الإيراني، بوضوح، في صمود غزة ومقاومتها، تراجع إلى حد الصفر، الحضور التركي ــــ القطري الذي كان أساسياً في المواجهات السابقة.

يبدي رئيس الحكومة الحمساوية السابق، اسماعيل هنية، تلهفاً على توظيف مقاومة غزة في تفاهم مع الإسرائيليين، تحصد حماس نتائجه السياسية. وفي لغة براغماتية صريحة، يقول إنه «لا بد من مواكبة سياسية لعمل المقاومة، لقطف ثمار العمل الميداني». هذا ما كانت تفكّر قيادات حماس به منذ بداية الاشتباك مع إسرائيل التي تحمل الفكرة نفسها، حول استدراج مصر، مرة أخرى، إلى مربع الوساطة بين غزة وتل أبيب، بين نتنياهو وهنية ــــ مشعل، بما يحقق للطرفين أهدافاً مشتركة هي: (1) تأكيد تهدئة تريدها إسرائيل، بضمانة مصرية، من شأنها، أيضاً، أن تزيل الفيتو المصري عن حماس، واخراجها، بالتالي، من عزلتها الناجمة عن انضمامها إلى المحور المعادي لسوريا التي صمدت وفي طريقها للانتصار في الحرب التي شاركت فيها حماس ضد السوريين، (2) اطمئنان إسرائيل إلى أن مقاومة غزة ستظل، في النهاية، تحت السقف القطري، ولا تفلت من سيطرة قيادات حماس التي لها، هي الأخرى، مصلحة أساسية في ادراج كل القوى المقاتلة في غزة تحت عباءتها السياسية، (3) أولوية تل أبيب وحماسيي قطر لطي الصفحة، واستعادة الزخم المعادي لسوريا، خصوصاً وأن دمشق، رفضت، بإصرار، ضغوط المصالحة مع القيادات الحمساوية التي تورطت في مسعى تدمير المركز القومي للمقاومة العربية.

لكن الحسابات الإسرائيلية ــــ الحمساوية القطرية، لم تتطابق مع حركة الواقع الفلسطيني والإقليمي، المتغيرة؛ فقد تحولت «حركة الجهاد»، المقرّبة من طهران ودمشق وحزب الله، إلى قوة مقاتلة رئيسية في غزة، لم يعد ممكناً تجاهلها سياسياً؛ حركة الجهاد، تسلّمت المبادرة المصرية، ربما قبل أن تتسلّمها حماس، ورفضتها، بينما يدعي الناطق الحمساوي، سامي أبو زهري، أن جماعته لم تطلع على المبادرة المنتظرة إلا بواسطة الإعلام، رافضاً التفاوض عبر الوسائل الإعلامية. إذا كان أبو زهري صادقاً، فهناك ما يتوجب التوقف عنده فعلاً؛ أعني أن النظام المصري منح الأولوية لحركة الجهاد، رغم ارتباطها بمحور المقاومة، على حساب حماس المرتبطة بالمحور الإخواني. في خضم التقاطعات السياسية المعقدة في المنطقة، يعني ذلك أن الدور المصري سينتهي إلى تحجيم القيادات الحمساوية.

على الأرجح أن الجناح العسكري لـ «حماس»، وعلى الضد من جناحها السياسي، يفضّل مكتسبات التسليح والمواجهة والتحالف مع حركة الجهاد وفصائل المقاومة الأخرى المرتبطة بمحور المقاومة، على توظيف التضحيات لتحقيق مكاسب سياسية لمشعل ــــ هنية ــــ أبو مرزوق وسواهم من القيادات الحمساوية التي تواجه اتهامات لا يمكن ردها أو تبييضها لدى الأوساط الشعبية التي تشكل قاعدة محور المقاومة.

ربما يكون الأفق مفتوحاً الآن لإعادة تشكيل الحركة الوطنية الفلسطينية من التيار الوطني الفتحاوي ومقاومي حماس الميدانيين والجهاد والشعبية والقيادة العامة والفصائل والتجمعات الأخرى، السائرة في الخط نفسه؛ لكن دون تحقيق هذا الهدف الكبير ــــ المرهون به، وحده، انقاذ القضية الفلسطينية من الضياع ــــ صراعات داخلية عميقة لن تتبلور نتائجها في هذه الجولة أو في المدى القصير؛ على أن المشهد الفلسطيني بدأ يتحرك نحو التغيير، وأهمّ ما انجزته المقاومة حتى الآن هو تراجع سيطرة الثنائية الفتحاوية ـــ الحمساوية على ذلك المشهد. وهذا ما كان منتظراً؛ ففلسطين لا يمكن أن تكون خارج محور المقاومة طويلاً، وهي ستشق طريقها، دائماً، وسط الضياع.