IMLebanon

بهدوء | «داعش» التي في العقول والقلوب!

مَن يتذكّر شيئا اسمه «ائتلاف قوة الثورة والمعارضة السورية»، أو «المجلس الوطني السوري» أو «الجيش الحر» أو «الجيش الإسلامي»؛ ربما لا يزال اسم «جبهة النصرة» يتردد، لكن مآل «الثورة» المفبركة التخريبية الدموية في سوريا، هو الاسم الساطع : «داعش»!

لكن، إذا تطلّب تلاشي الأسماء والمسميات «الثورية» السورية، سنوات أربعاً، فإن حال «الثورة» العراقية يدعو للرثاء؛ فلم يمرّ شهر واحد على بزوغ اسم البعث وعزة الدوري حتى تلاشيا؛ فليس هناك إلا غزوات «داعش»!

لم يحدث ذلك بالمصادفة، ولا نتيجة مؤامرة، ولا بسبب فشل «الثورتين» وأخطاء «الثوريين». كلا، فـ «داعش» كانت مركوزة في قلب أول مظاهرة «سلمية» شهدتها سوريا في العام 2011، وكانت الجوهر العلني لـ «الثورة» العراقية، وللحركة الاخوانية والتحريرية والسلفية الخ… إن عيون قادة الاخوان لتلمع وهم يرفضون إدانة جرائم «داعش»، أو حتى التعرّض لها بكلمة؛ إنهم، بالعكس، يغبطونها على ما يحيطها من ظروف وما تملكه من قدرة على اطلاق غرائز الكراهية والقتل والإقصاء والسلب والسبي، وهي نفسها الغرائز الاخوانية ــــ السلفية.

«داعش» ليست ظاهرة مستجدة؛ إنها تمثّل ميولاً ما تزال ماثلة حتى تحت الجلود الناعمة واللحى الحليقة وربطات العنق الأنيقة، كما هو حال تيار المستقبل المعدود ليبرالياً!

«داعش» هي تاريخ وهاجس ونزعة، لم تستطع الدول الوطنية الحديثة انتزاعها من العقول والقلوب، وأطلقها ربيع الخليج من أقفاصها وقيودها.

فأولاً، الثورتان، بالأساس وفي العمق وعلى السطح، عبّرتا عن نزعة طائفية مغلقة لا وطنية، مشحونة بالتعصّب والتوتر واختمار مشاعر رفض الشركاء الوطنيين على الجملة، وتصعيد غريزة الانتقام من سلطات يُزعم بأنها تعبّر عن أقلية طائفية (في سوريا)، وتعبّر فعلاً عن أغلبية طائفية في العراق.

على مهاد التحشيد الطائفي، يبدأ الصراع، داخل ذلك التحشيد، حتمياً؛ فالمتطرف يأكل المعتدل، والأكثر تطرفاً يأكل المتطرف، وهكذا حتى وصلنا إلى اكتمال الصورة الفكرية ــــ التنظيمية التي تعكس العقلية الطائفية كلياً في صيغة بدوية ــــ تكفيرية ــــ اجرامية، تلك التي تمثّلها «داعش»؛ الردة إلى الصحراء، وشطب كل التراث الحضاري الاسلامي، والعودة إلى الغزوات والفتوحات والمذابح والتطهير العرقي والديني وقطع الرؤوس وسبي النساء واستعادة سوق الجواري وكل ذلك المشهد الذي استغرقت المجتمعات العربية ــــ الاسلامية، 14 قرناً لاستيعابه ووأده عندما يطل برأسه، واخضاعه لمنطق الاستقرار والانتاج الزراعي والحرفي والثقافي، أي لمنطق التحضّر المدني.

وثانيا، «داعش» هي استمرار تاريخي للنزعة الطائفية الشعبية نحو الاشتراك في المذابح التي استعادت حضورها، مع تفكك الدولة العثمانية، في أواسط القرن التاسع عشر، وعبّرت عن نفسها في مذابح شهدتها دمشق العثمانية وجبل لبنان، بينما ترافق انهيار العثمانيين في الحرب العالمية الأولى، مع مذبحة القرن التي شنّها الأتراك لإبادة الأرمن، وتحطيم الأمة الأرمنية؛ فقد بدأ الأتراك الذين أبادوا مئات آلاف الأرمن، بمقتلة شاملة للمثقفين والقيادات والفعاليات والسياسيين الخ، مما خلق فجوة في التركيبة الاجتماعية السياسية الأرمنية ما تزال حاضرة حتى اليوم.

وثالثاً، آن الأوان للقول إن «داعش» وُجدَتْ في الفرهود العراقي ضد يهود بغداد، وسواه من الفراهيد العربية ضد اليهود العرب، وقد كانوا جزءاً دينامياً من المجتمعات العربية في مختلف الحقول، وكان ولاؤهم ــــ على الأغلب الأعم ــــ عربياً، ونزوعاتهم يسارية وليبرالية. وقد قدمتهم القوى القومية ــــ الطائفية على طبق من فضة للصهيونية، وتآمرت على تهجيرهم إلى فلسطين المغتَصبة من أهلها؛ فقد كان القتل الطائفي الموجه ضد المواطنين اليهود المسالمين، الشركاء في القومية والوطن، أسهل وأربح من القتال ضد الصهيونية في فلسطين.

حين صمت التقدميون والمسيحيون العرب على تهجير مواطنيهم اليهود، أسّسوا لتهجير المسيحيين، والطوائف التاريخية من سريان وكلدان واشوريين وشبك وأيزيديين الخ…

الطائفية ماكنة تبدأ بالأبعد اليهودي، ثم المسيحي، ثم الشيعي، ثم العلوي… الخ، ثم حليقي اللحية، ثم مَن لا يبايعون الخليفة، ولا يقدمون نساءهم لجهاد النكاح!

الثورة العربية الحضارية ضد «داعش» تبدأ من النقد الذاتي لحركة تهجير اليهود العرب، والكف عن الاستخدام الطائفي لوصف «يهودي» كناية عن الصهيوني والاسرائيلي، بل إن هزيمة الصهيونية وتفكيك كيانها في فلسطين ليس ممكناً من دون استحداث خطاب أخوي انساني وقومي نحو اليهود العرب، واستعادة ولائهم.

ورابعاً، قد تنتهي وظيفة «داعش» كأداة امبريالية رجعية في وقت قريب، وتتلاشى مع التسويات المنتظرة، لكن ما كشفته «داعش» ــــ التنظيم من تغلغل «داعش ــــ الأفكار والميول عند جمهور عربي واسع، يتطلّب القيام بثورة ثقافية شاملة، أظن أن لها أولوية مطلقة على جدول الأعمال العربي، وخصوصاً المشرقي. المطلوب الآن، ليس فقط حملة ضد جرائم «داعش»، بل ضد العقلية والسيكولوجية الداعشية التي ثبت أنها متجذرة في العقول والقلوب.