IMLebanon

بهدوء | غرائز الفاشية الدينية

ما نشهده في بلادنا، اليوم، أكثر مما يمكن توصيفه بالتكفير والإرهاب. نحن أمام ظاهرة جديدة معقّدة هي الفاشية الدينية التي يمثّلها، في أقصى اليمين، تنظيم «داعش»، ولكنها تشمل سلّماً من الحركات الدينية، كالحركة الوهابية و«القاعدة» ومنتجاتها والجماعات المسلحة في سوريا والعراق، والتيار القطبي في الإخوان المسلمين، بل ولدى جمهور واسع من رجال الدين والمؤمنين.

فمن المدهش أن العديد من الأئمة في ثلاث محافظات أردنية، يتوجهون ــــ حسب بيان تحذيري صادر عن نقابتهم ــــ بالدعاء لـ «الخليفة» البغدادي، من على منابر المساجد التابعة لوزارة الأوقاف! وهناك معطيات بحثية حول تأييد أغلبية السعوديين الساحقة لـ «الدولة الاسلامية».

ترتبط الفاشية الدينية، حكماً، بالطائفية والمذهبية، ولكن هدفها الجوهري هو الهيمنة على الطائفة التي تدّعي تمثيلها بالذات. وفي الحالة التي نحن في صددها، تهدف، تحديداً، إلى الهيمنة الفكرية والسياسية والسيطرة التنظيمية، على الجماهير العربية السنيّة، المسحوقة بالإفقار والاستبداد، لمنعها من التحرك الوطني ــــ الاجتماعي ــــ الديموقراطي، وتحويل احتجاجاتها المزمنة نحو كراهية المكوّنات الطائفية الأخرى كالشيعة والعلويين والاسماعيليين والمسيحيين والإيزيديين الخ.

في مقال منشور في «واشنطن بوست»، في مطلع تموز 2005، نعى المفكر الإمبريالي المعروف، فوكوياما، تفاؤله بـ «نهاية التاريخ»، نادباً «صورة العالم» الذي يتشكّل من الهزيمة الأميركية في العراق، وطموحات ايران، ونهضة روسيا القومية، والأسلحة النووية لدى كوريا الشمالية، وانتشار الحكومات اليسارية في أميركا اللاتينية، والاختلالات في الاقتصاد العالمي، وعجز الموازنات، وتراجع ودائع الدولارات في البنوك المركزية الاجنبية، والارتفاع المهول في أسعار السلع والخدمات والنفط، وغيرها من مظاهر هي، كما نرى، مظاهر انحلال الرأسمالية النيو ليبرالية وسقوط الهيمنة الاميركية.

يومها، «تنبّأ» فوكوياما بحلول للأزمة، من أهمها انخفاض أسعار النفط بما يلجم «المتمردين» في روسيا وإيران وفنزويلا، وكذلك أن «السنّة لن يقفوا مكتوفي الأيدي أمام الصعود الشيعي»! النبوءة الأولى لم تتحقّق، بينما الثانية تحقّقت في صورة لم تخطر على بال أكثر الإمبرياليين اجراماً.

رجعنا إلى «نبوءة» فوكوياما، لنقول إن اطلاق الصراع السني ــــ الشيعي، كان مشروعاً مهيمناً على العقل الأميركي منذ منتصف العشرية الأولى للقرن الحالي، ومما لا ريب فيه أنه جرى تصميم العديد من المداخلات والأحداث لإضرام نيران الحرب المذهبية التي بدأت تستعر منذ عام 2006.

ومع ذلك، فلسنا أمام مجرّد مؤامرة. فالتاريخ العربي المعاصر، يشير إلى صعود ثلاث ديناميات، الأولى ليبرالية ــــ مسيحية انتهت في الأربعينيات، والثانية، ناصرية ــــ سنية انتهت في السبعينيات، وما زلنا نعيش، منذ نهاية ذلك العقد، صعود الدينامية الاجتماعية ــــ السياسية الشيعية التي لم تكتمل مَدَياتها بعد، مما يثير هلع أنظمة وقوى خليجية تشعر بأنها تجلس على قنبلة موقوتة. فآل سعود يخشون من التأثير الثوري للشيعة في القطيف والإحساء والبحرين ــــ وهي، في الواقع، اقليم واحد يشكل «البحرين الكبرى» ــــ على تشجيع روح التمرّد في المملكة، كما حدث، جزئياً، في ربيع 2011؛ فكان الردّ بتأجيج العداء السني ــــ الشيعي وإلهابه بالجهاد في سوريا، بالتحشيد الدعوي والإعلامي والسياسي والتجنيد والدعم المالي والتسليحي واللوجستي والاستخباري. وهو ما انتهجته قطر الوهابية، والإمارات والقوى السلفية في هذه البلدان بالإضافة إلى الكويت. لقد قرر النظام الخليجي، كوسيلة وحيدة للحفاظ على بقائه، إطلاق الفاشية الدينية الطائفية من قمقمها، في الخليج، ولكن لتصب نيرانها في سوريا والعراق ولبنان.

انفردت قطر بالسير على دربين؛ مع الفاشية الدينية في سوريا، ومع الإخوان المسلمين، الأداة التي يمكن تشغيلها لضبط التمرد الشعبي في المجتمعات السنية الصافية، كمصر وتونس؛ بينما اعتبرت السعودية، نجاحات الإخوان، العام 2011، تهديداً لنفوذها لصالح نموذج اسلامي أكثر شعبية، كما لصالح النفوذ القطري.

الفاشية الدينية الطائفية، إذاً، لها دوافع اجتماعية وسياسية وثقافية، ولها رعاة أقوياء وأثرياء، دولياً وإقليمياً؛ وهؤلاء ــــ على رغم تخطيها الحدود المرسومة، ومخاطرها على رعاتها بالذات، واعلانهم الحرب على تنظيمها الأقوى «داعش» ــــ سيواصلون العمل على الحفاظ على جمرتها ملتهبة.

بيد أن أقوى دوافع الفاشية الدينية، يظل كامناً في الدافع النفسي؛ فلدى الإنسان ثلاث غرائز بدائية هذّبتها الحضارة، لكي يكون استمرار الحياة ممكناً. وهذه الغرائز هي (1) غريزة القتل، (2) وغريزة السطو، (3) وغريزة الجنس المباح.

الفاشية الدينية تغوي جماهيرها ــــ المفقرة المهمّشة ــــ بحل سحري هو إطلاق تلك الغرائز من عقالها، وممارستها من دون شعور بالذنب أو خوف من العقاب الاجتماعي أو القانوني، بل كممارسة مقدّسة تتم بأمر الله، وخضوعا لشرعه، وتقرباً منه.

إلا أن اطلاق غرائز الفاشية الدينية، تصطدم، في النهاية، مع وجود المجتمعات والدول، مهما كانت هويتها وأنظمتها وثقافتها وقدراتها، بما في ذلك المملكة السعودية.