معادلة فخمة تلك التي وضعها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالأمس في شأن روسياه وعلاقاتها مع بالخارج. وهي في شكلها السياسي تدل على واقعية نابذة لأي أوهام وطموحات، وفي مضمونها تدل على اشتقاق من الجذر الأول الذي يحكم منظومة العلاقات الديبلوماسية والقانونية بين الأمم والشعوب في عالم اليوم.
قال حرفياً.. «يجب أن نطوّر بلادنا بهدوء وكرامة وبطريقة فعّالة من دون الانقطاع عن العالم ومن دون قطع العلاقات بشركائنا، لكن من دون أن نسمح بأن يتصرفوا معنا بازدراء».
نصّ خلاّب، لأحد من رجال الدول الأقحاح يمكنه أن يطمح إلى أكثر منه. وهو القائم في خطّه العريض على تلك الحسبة العادلة التي تماثل في شرعة الأمم المتحدة البند الأثير القائل بالاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشؤون الخاصة (الداخلية) لأي دولة من قبل أي دولة أخرى.
غير أن النصّ مثالي، والفعل حمّال مثالب. والمعضلة في ذلك تطال المبدأ في كل شرع. وضعي بشري أو إلهي مُنزّل. ومن ضمنه وأوله الشأن الناظم للعلاقات الدولية والممارسة السياسية. الثنائية والمتعددة. والمحلية الضيقة كما الخارجية الواسعة.
والمعضلة الأكبر والأخطر والأكثر انحطاطاً من تجاهل النصّ العادل، هو الدجل العاري المتأتي من «اعتناقه» والعمل بنقيضه! والذهاب في تلك الممارسة إلى حدود اعتبار شرعة نيتشه هي الأساس، وسواها للبهرجة والتلوين الذي لا مناص منه.. تلك الشرعة التي تعتبر الأخلاق وتفاصيلها ومشتقاتها، خصوصاً تلك المسبوكة باللغة الدينية، سلاح الضعفاء. وتمجّد تبعاً لذلك، ضروب العنف والبطش والقوة وتعتبرها شرطاً لازماً لبناء قدرات ومقدرات الدول العظمى!
أخذ بذلك هتلر.. واليوم يماثله بوتين. أو بالأحرى، وكي لا يكون الحكم حاسماً في المقارنة بين الرجلين، يحاول الثاني أن يأخذ به أينما أمكن والاستناد إليه بوضوح، ورفده بعدّة موازية آتية في جملتها من ميكافيللي وأنشودته الخالدة عن الانتهازية بكل مراتبها وضروبها!
.. يطلب اليوم، على عكسه بالأمس، مساواة في الأداء تحفظ الكرامات الوطنية العامة وتنبذ الازدراء، لكنه هو نفسه أول وأخطر من ازدرى وأهان وهتك حرمات وكرامات وخيارات دول وشعوب وأمم، واعتمد الازدواجية في مسلكه، والانتهازية في أحطّ مراتبها خدمة لهدف إعادة إحياء إمبراطورية أفَلت بعد أن أكلها العفن!
هو نفسه الذي هتك حدود القرم وضمّها بالقوة. وهو نفسه الذي هتك خيار الأوكرانيين وازدرى انتخاباتهم وخيارهم الحر بالتوجه نحو أوروبا والأطلسي. وهو نفسه الذي أهان العرب والمسلمين عندما ساهم ويساهم في قتل شعب سوريا واحتقار ثورته واعتبارها شغل عصابات.. وهو نفسه الذي اعتبر انقضاض الليبيين بمساعدة غربية على العجيبة المسماة معمر القذافي «إهانة» له ولبلاده! وهو نفسه الذي صمت صمْت المومياءات إزاء العدوان الإسرائيلي على غزة وأهلها، وهو نفسه الذي يهين حتى التاريخ الوطني لبلاده وذكرى الملايين من أبنائها الضحايا، من خلال إعادة الاعتبار لستالين، السفّاح الأكبر في تاريخها بل في كل التاريخ الحديث للبشر.
.. لو يستمر في دأبه الساعي إلى مِثال ستالين، فذلك على الأقل، وبالتأكيد، يعطيه صدقية معدومة في نواحٍ أخرى: ألم يكن ذلك الطاغية التجسيد التام لشرعة نيتشه وأخلاق ميكافيللي؟!