إحتفل الرئيس فلاديمير بوتين بـ«الانتصار» على ألمانيا النازية من القرم، التي كانت إلى ما قبل أسابيع قليلة جزءاً من دولة مستقلّة اسمها أوكرانيا. لم يتردّد في القول، من القرم، وليس من مكان آخر، أنّ الاتحاد السوفياتي «أنقذ أوروبا من العبودية».
هل كانت تجربة الاتحاد السوفياتي مع الدول الأوروبية التي صارت تحت نفوذه بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية أفضل من تجربة هذه الدول، على رأسها بولندا، مع ألمانيا النازية؟
من الواضح أنّ بوتين يرفض قراءة التاريخ، تاريخ الاتحاد السوفياتي، وليس أي تاريخ آخر لبلد آخر. كلّ ما يريده هو جعل روسيا ميني ـ اتحاد سوفياتي وفرض هذا الواقع على العالم انطلاقاً من أوكرانيا. لهذا السبب وليس لغيره، اختار الذهاب إلى القرم بهدف تأكيد أنّه استطاع فرض أمر واقع لا مجال أمام العالم سوى القبول به.
استعادت روسيا القرم من أوكرانيا بالقوّة وذلك ردّاً على التقارب بين الأوكرانيين والاتحاد الأوروبي. يمتحن الرئيس الروسي عملياً المجتمع الدولي، على رأسه الولايات المتحدة. يريد أن يعرف مدى قدرة هذا المجتمع على التحمّل. من الواضح، أقلّه إلى الآن أن إدارة أوباما مستعدة للرضوخ لبوتين على الرغم من كل البيانات التي تصدر عن البيت الأبيض ووزارة الخارجية والتي يبدو أنها لا تساوي قيمة الورق الذي كتبت عليه. ولكن إلى متى تظلّ الولايات المتحدة في هذا الوضع؟
بعد تحديه العالم من القرم، لم يعد الموضوع مرتبطاً باستعادة روسيا لشبه الجزيرة التي كانت في الماضي جزءاً من أراضيها والتي تخلّى عنها نيكيتا خروشوف لأوكرانيا بعدما اعتبرها فأل خير عليه. كان خروشوف مسؤولاً عن الحزب الشيوعي في أوكرانيا، بصفة كونها إحدى جمهوريات الاتحاد، عندما خلف ستالين في موقع الأمين العام للحزب الشيوعي، وهو الموقع الأهمّ في ما كان يعرف بالاتحاد السوفياتي. قرّر أن تكون شبه جزيرة القرم «هدية» منه لأوكرانيا…
ما هو التاريخ الذي يسعى بوتين إلى تجاهله؟ هذا التاريخ لا ينفي الدور الذي لعبه الاتحاد السوفياتي في الانتصار على ألمانيا النازية الذي تلاه اقتسام لأوروبا، ووضع قسم من دولها تحت السلطة المباشرة لموسكو. كان بين هذه الدول بولندا وهنغاريا وتشيكوسلوفاكيا (صارت الآن دولتين) وبلغاريا ورومانيا وجزء من المانيا نفسها (المانيا الشرقية)، فيما اتّفق على تحييد النمسا.
نسي بوتين أنّ الاتحاد السوفياتي كان في البداية متواطئاً مع المانيا النازية. نسي خصوصاً أن الاتحاد السوفياتي لم يدخل الحرب إلّا بعدما تعرّض لهجوم ألماني. بقي يتفرّج على الحرب حتّى الثاني والعشرين من حزيران – يونيو . قبل ذلك التزمت موسكو تماماً المعاهدة التي وقّعتها مع ألمانيا النازية في الثالث والعشرين من آب/اغسطس . وقّع تلك المعاهدة في موسكو كل من وزير الخارجية السوفياتي فياتشيسلاف مولوتوف ووزير الخارجية الألماني يواكيم فون ريبنتروب. لم تسمح تلك المعاهدة للاتحاد السوفياتي بالتفرّج على التمدّد الألماني في كلّ الاتجاهات، خصوصاً في بولندا وفرنسا، فحسب، بل سمحت له أيضاً بقضم بعض الأراضي البولندية وأخرى لدول أخرى جارة من بينها ليتوانيا ولاتفيا وأستونيا. هناك مئات الآلف من أبناء هذه الدول هجّروا أو قتلوا في تلك المرحلة التي سبقت الهجوم الالماني على الاتحاد السوفياتي. كان الشعار الذي أطلقته موسكو لتبرير موقفها المهادن لالمانيا أن «دولاً إمبريالية تقاتل دولاً إمبريالية أخرى»!
لم يكن الاتحاد السوفياتي يوماً جمعية خيرية. كان نسخة عن ألمانيا النازية ولكن بواجهة وشعارات مختلفة تغطّي طبيعته الحقيقية، وهي طبيعة إمبريالية، عانت منها شعوب أوروبا الشرقية على وجه الخصوص وشعوب أخرى في مختلف أنحاء العالم. يأتي العرب على رأس هذه الشعوب التي اتكلت على الاتحاد السوفياتي وصدّقت شعاراته فكانت النتيجة حرب حزيران/يونيو وثمارها المرّة. ما زال العرب إلى اليوم يتذوّقون من تلك الثمار التي يعتبر الوقوف مع النظام السوري، الذي يذبح شعبه يومياً بالسلاح الروسي، خير دليل على مدى مرارتها…
مثلما لم يكن لدى الاتحاد السوفياتي ما يقدّمه للعالم، ليس لدى روسيا فلاديمير بوتين ما تتفاخر به لا على الصعيد الداخلي ولا على الصعيد الخارجي. فالسياسة الروسية قائمة على الانتهازية وعلى استغلال نقاط الضعف لدى إدارة أوباما كي يقول بوتين إنه استعاد أمجاد الماضي القريب. مثل هذه الاستعادة يمكن أن تساعده في تغطية المشاكل العميقة التي يعاني منها الاقتصاد الروسي الذي لم يستطع تطوير نفسه وبقي يعتمد على الغاز والنفط.
إن الفشل في تطوير الاقتصاد الروسي الذي انعكس بدوره على المجتمع ستكون له نتائجه السلبية عاجلاً أم عاجلاً. كلّ العراضات التي يقوم بها بوتين في القرم وغير القرم ليست سوى مسكّنات وهرب من مواجهة المشاكل الحقيقة للبلد وهي داخلية أوّلاً. إنّها مشاكل ناجمة عن غياب الاقتصاد المنتج من جهة والمجتمع الهرم من جهة أخرى.
صحيح أن روسيا لم تكن قادرة على السماح لنفسها بأن تكون بعيدة عن القرم وعن موانئ شبه الجزيرة التي يستخدمها أسطولها البحري، لكنّ الصحيح أيضاً أنه لن يكون في استطاعتها عزل نفسها عن العالم في المدى الطويل.
لا يمكن لأوكرانيا، التي تعاني بدورها من مشاكل ضخمة الابتعاد عن أوروبا في المدى الطويل. بالنسبة إلى أوكرانيا، يمثّل التقارب مع الاتحاد الأوروبي الأمل الوحيد في الخروج من أزمتها. أما الدوران في الفلك الروسي، فليس سوى الطريق الأقصر لجعل الأزمة الأوكرانية تزداد عمقاً يوماً بعد يوم. فلو كانت روسيا قادرة على مساعدة أي دولة من دول العالم، لما كانت كشفت أنّ كل ما تستطيع تقديمه لسوريا هو سلاح تقدّمه للنظام ويدفع ثمنه الإيرانيون الطامحون بدورهم إلى لعب دور إقليمي لا يتناسب مع قدرات البلد.
سيكون فلاديمير بوتين قادراً على جعل روسيا ميني – اتحاد سوفياتي مستفيداً من العجز الأميركي. كذلك، سيقطع الغاز عن أوكرانيا أو يضع شروطاً قاسية في مقابل تزويدها به. إلّا أنّ ذلك لا ينمّ سوى عن قصر نظر سياسي لشخص يرفض الاعتراف بأن الاتحاد السوفياتي انتهى لأنه كان قوّة عسكرية كبيرة تقف على ساقين ضعيفتين، أي على اقتصاد أقلّ ما يمكن وصفه به أنّه هش. هل يتذكّر بوتين أنّ الكلام الكبير في السنة لا يقدّم ولا يؤخّر… وأن قراءة التاريخ أكثر فائدة منه.