لم تصمد دعوات واشنطن لتشكيل حكومة وحدة وطنية في العراق طويلا. اذ تراجع الأميركيون انفسهم عنها عمليا، وتبين أنهم اطلقوا الفكرة فقط لرفع الحرج عن انفسهم بسبب رغبتهم في مساعدة نظام بغداد على الوقوف في وجه التحاف السني المنتفض ضده، بانتظار ان تلغي التطورات الأمنية على الارض المفاعيل السياسية لهذه الدعوة.
أدرك المالكي ان الاميركيين يأملون منه بشكل غير مباشر اجهاض دعوتهم لانهم يعرفون تماماً ان قرار تغيير تركيبة نظامه في يد طهران وحدها، وان التفاوض يجب ان يجري مع الايرانيين، فسارع الى رفضها، مشددا على الحل العسكري أولا، وقرن ذلك بمحاولة استعادة المبادرة الميدانية عبر إرسال قوات قتالية كبيرة الى الشمال، مركزا على استعادة تكريت، ليس فقط لأهميتها العسكرية، بل لرمزيتها السنية، كونها مسقط رأس صدام حسين الذي لا يزال يؤرقه بعد سنوات على اعدامه.
ومن الواضح ان الروس الذين يعرفون ايضاً الحدود التي رسمتها واشنطن لاي تدخل من جانبها في العراق، ويدركون ان أوباما يجهد للالتفاف على الشعار الذي رفعه ورهن بموجبه تدخل طيرانه باشراك المكونين الكردي والسني في الحكومة العراقية، سارعوا الى اسعاف المالكي بتقديم طائرات حربية كان تعاقد عليها قبل فترة، لافهام الاميركيين بأن الظرف والوقت الضاغط لا يسمح بمناورات من هذا النوع، وان عليهم الاسراع في انقاذ المالكي، ولاظهار ان معركة موسكو واحدة في سورية والعراق، الى جانب نظاميهما.
وكان وزير خارجية واشنطن جون كيري دعا “الجيش السوري الحر” الى مواجهة قوات “داعش” عند الحدود السورية مع العراق، للتغطية على ما يبدو توافقا اميركيا غير معلن مع النظام السوري على أولوية محاربة “الارهاب”، بحيث يصبح اي تدخل للطيران الاميركي، اذا حصل، وكأنه لاسناد المعارضة السورية وليس جيشي الاسد والمالكي، بعدما كان رئيس وزراء العراق ابرز هذا التوافق مع دمشق عندما رحب بالغارات السورية على منطقة القائم الحدودية التي استولت عليها “داعش”، ثم تبين ان هذه الغارات التي لم تتأكد اهدافها ولا فاعليتها، كانت مجرد غطاء لمهاجمة قوات المعارضة التي تحاول استعادة مواقع حدودية اخرى من “داعش”، مثلما حصل في البوكمال.
وفي الوقت نفسه، تراجع الاوروبيون بسرعة عن دعواتهم الى التغيير السياسي في بغداد، وبدت زيارة وزير الخارجية البريطاني للعاصمة العراقية اشبه بتظهير للمالكي، حتى لو اقترنت بتكرار الدعوة الاميركية للانفتاح على المعارضة، ذلك ان لبريطانيا أولويات اخرى، ابرزها المصالحة الكاملة مع ايران، بعد قرار اعادة فتح سفارتها في طهران، طمعاً في العقود المغرية الموعودة.
كان الاعلام الغربي، وخصوصا الاميركي، قد مهد الطريق أمام اوباما للتراجع عن اشتراطه التزام المالكي سياسة معتدلة تجاه غير الشيعة، عندما ركز على فظاعات يرتكبها مقاتلو “داعش” في العراق عن سابق تصور وتصميم، بهدف تحويل الانتفاضة ضد حكومة بغداد الى نزاع طائفي، تماما كما جرى في سورية، حين سال حبر كثير عن التهديد الذي يمثله المتطرفون للأقليات الدينية والعرقية، بحيث غدت المعارضة كلها متهمة بالتطرف. لكن فات الاعلام والادارة معاً ان المالكي، على غرار الاسد، بات فاقداً للشرعية الشعبية والدستورية، وان النظام الفئوي الذي عمل على ارسائه منذ ثماني سنوات لا يستطيع ان يستمر، حتى بالقوة العسكرية.