إلى أن تتوافق على آلية جدية لإدارة صلاحيات رئيس الجمهورية بعد انتقالها إلى مجلس الوزراء، لن يسع حكومة الرئيس تمام سلام تنظيم شغور ليس في إمكان أحد التكهّن بالوقت الذي يستغرقه. ما يحتاج إليه مجلس الوزراء آلية ملائمة تراعي بين ممارسته صلاحيات الرئيس وتماسكه
شغور الرئاسة الأولى بعد انقضاء ولاية الرئيس ميشال سليمان مطابقٌ بأسبابه تقريباً للشغور الذي تلى انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود عام 2007. وهو الإنقسام الحاد بين قوى 8 و14 آذار، وتناقض مشروعيهما وخياراتهما، ناهيك بتنافسهما على إيصال كل منهما رئيساً من صفوفه. أفضت الحصيلة الآن، كما من قبل، الى وضع صلاحيات الرئيس بين ايدي الحكومة القائمة.
كان على حكومة الرئيس فؤاد السنيورة آنذاك اختبار المادة 62 للمرة الأولى بعد اتفاق الطائف، وتجريب مغزى تعديلها في اصلاحات الاتفاق، ووضعها موضع التطبيق. تكرر الشغور مع حكومة الرئيس تمام سلام من غيرالإقتناع تماماً بأن ما صحّ في ممارسة صلاحيات رئيس الجمهورية عامي 2007 و2008 يصلح بالتأكيد اليوم.
بعد نهاية ولاية لحود، آخذة في الإعتبار انتقال صلاحيات رئيس الجمهورية إليها عملاً بالمادة 62، كان على حكومة السنيورة تحديد سبل تعاطيها مع الشغور تبعاً لبضع قواعد:
أولاها، أن المادة 62 لا تحصر الإنتقال بصلاحيات محددة، بل تتكلم عن انتقال «صلاحيات رئيس الجمهورية» الى مجلس الوزراء مجتمعاً. وهي بذلك تتناول الصلاحيات على نحو مطلق. وجدت حكومة السنيورة أن النص مطلقٌ، فأخذت بالقاعدة القانونية القائلة بأن المطلق يجري على إطلاقه. أما الحصر فيلزمه نص.
سابقة السنيورة:جلسة لمجلس الوزراء للإقرار، ثم جلسة رئيس الجمهورية للإصدار
ثانيها، لا فراغ ناجماً عن خلو رئاسة الجمهورية «لأي علة كانت»، بل تولي السلطة الإجرائية الصلاحيات وكالة. ما يشير الى تحوّط الدستور من شغور محتمل في الرئاسة لأسباب تتجاوز الوفاة والإستقالة المنصوص عليهما في المادة 74. تحدثت المادة 62، الحالية كما السابقة قبل اتفاق الطائف، عن سدّ الفراغ بإنتقال تلقائي للصلاحيات.
ثالثها، لم يحدد الدستور آلية ممارسة صلاحيات الرئيس بعد انتقالها إلى مجلس الوزراء. ما يقتضي عندئذ الأخذ في الحسبان ملاءمتها مع واقع أمني وسياسي محفوف بالأخطار في ذلك الحين.
رابعها، يتخطى البنود الدستورية الى حكومة السنيورة نفسها، والصعوبات التي كانت تجبهها عندما انتقلت إليها صلاحيات رئيس الجمهورية. بعد خروج المعارضة منها باستقالة الوزراء الشيعة الخمسة، أصبحت حكومة الفريق الواحد، تواجه في الوقت نفسه تحديات قاسية أخصها منذ تشرين الثاني 2006 الطعن في دستوريتها وميثاقيتها، ومن ثم مقاطعتها ومنعها من المثول أمام مجلس النواب. ناهيك بظروف سياسية مضطربة تزامنت مع اعتداءات واغتيالات أمنية، حملتها على تأكيد تماسكها وتضامنها ووحدتها، والاصرار خصوصا على شرعيتها ودستوريتها.
كان على حكومة السنيورة اذ ذاك، في سبيل الدوافع تلك، وضع آلية ممارسة صلاحيات رئيس الجمهورية. لا سوابق تحتكم إليها. بيد أنه لن يسعها إلا أن تمارسها، وتالياً التمسك بالمادة 62 وتطبيقها كمسؤولية دستورية حتمية ملقاة عليها، بغية ضمان استمرار عمل السلطة الإجرائية وتسيير الإدارات وانتظام الحياة العامة. بذلك وضعت أول آلية، ارتبطت على نحو وثيق بواقع ما كانت عليه حكومة السنيورة، تضع المادة 62 موضع التنفيذ.
منذ اجتماعها الاول غداة الشغور، حدد السنيورة بالتفاهم مع الوزراء ــــ وكان عددهم اضحى 17 وزيراً من 24 بعد استقالة الوزراء الشيعة الخمسة والوزير الأرثوذكسي واستشهاد الوزير بيار الجميّل، آلية قالت بالآتي:
1 ـــ يحضّر رئيس الحكومة جدول أعمال جلسة مجلس الوزراء ويرسله إلى الوزراء جميعاً للإطلاع عليه قبل انعقاد الجلسة، على غرار ما كان يفعل عندما كان يرئس لحود مجلس الوزراء، ثم بعد مقاطعته، ثم في ما بعد في مرحلة الشغور.
2 ـــ يجتمع مجلس الوزراء في جلسة أولى برئاسة السنيورة يناقش فيها جدول الأعمال ويقرّه. بعد ذلك يرفع الجلسة.
3 ـــ تفتتح جلسة ثانية للفور بعد رفع الجلسة الأولى، يصبح فيها مجلس الوزراء في ثوب رئيس الجمهورية، ويمسي هو عندئذ الرئيس، كي يوقع الوزراء جميعاً القرارات التي اتخذها مجلس الوزراء في الجلسة السابقة، باعتبار ان في كل منهم قطعة من رئيس الجمهورية. راح الوزراء الـ17 آنذاك يوقعون القرارات كلها توطئة لإصدارها وطلب نشرها في الجريدة الرسمية، وهي الصلاحية المنوطة برئيس الدولة.
مغزى الآلية المحدثة تلك النتائج الآتية:
ـــ بالإنتقال من جلسة مجلس الوزراء إلى جلسة رئيس الجمهورية، يتحقق الإنتقال من المادة 65 التي تحدد نصاب انعقاد مجلس الوزراء وآلية تصويته على القرارات، إلى المادة 62 التي تتناول ممارسة صلاحية رئيس الجمهورية عند شغور المنصب، ومن ثم المادتين 53 و56 المتعلقتين بإحالة مشاريع القوانين على مجلس النواب وإصدار المراسيم وطلب نشرها.
ـــ لأنها حكومة الفريق الواحد، كان توقيع القرارات يتم بالإجماع في الجلسة الثانية مطابقاً تماماً لإقرار القرارات بالإجماع أيضاً في الجلسة الأولى. لا يصحّ إذ ذاك أن لا يوقع الوزيرعلى القرار الذي وافق عليه، ولا يصح كذلك ـــ وخصوصاً ـــ أن لا يوقع الوزير قراراً لم يوافق على إقراره، إلا أنه ملزم في كل حال التضامن الوزاري وإرادة الغالبية. وما دامت حكومة الفريق الواحد، الأصح أن أحداً منها لا يريد الخروج على تضامنها، أو الخروج منها حتى.
ـــ من دون حضّ أو إصرار على التوقيع، أقبل الوزراء الـ17 على توقيع القرارات تلك توطئة لإصدارها، من باب تحصين حكومة الفريق الواحد والتشبّث بتماسكها وانسجام وحدتها.
على نحو كهذا أدار السنيورة ووزراؤه شغور عامي 2007 و2008 حتى الجلسة الأخيرة لمجلس الوزراء في 9 أيار 2008، غداة حوادث 7 أيار، عندما وجد نفسه مرغماً على التراجع عن قراري 5 أيار المشهودين. كل جلسة على مرّ الأشهر الستة من الشغور، كانت من نصفين: نصف أول لمجلس الوزراء، ونصف ثان لمجلس الوزراء في لبوس رئيس الجمهورية. وحدهما قرارا 5 أيار لم يتح بعد إقرارهما الرابعة فجر ذلك اليوم عقد جلسة ثانية لتوقيعهما. فظلا كذلك، ولم يصدرا في الجريدة الرسمية بعدما استبقتهما الأحداث الدامية تلك. ثم ألغيا.
بانقضاء ست سنوات كأن شيئاً لم يتغيّر: شغور 2014 على صورة شغور 2007. وكذلك أفرقاؤه. كذلك المادة 62 نفسها. بيد أن دون العودة إلى السابقة تلك عقبات، تجعل من المتعذّر على سلام استيحاء سابقة السنيورة: خلافاً لحكومة الفريق الواحد 2007، فإن حكومة 2014 هي ائتلاف فريقين لا يجمع بينهما سوى التناقض والتنافر والإنقسام، ما يحيل إجماعهم على قرار مستعصياً من غير انطوائه على تبادل مكشوف للمكاسب والمصالح والحصص. وفي ضوء إصرار أفرقاء في 8 آذار على مهر القرارات بتواقيع الوزراء الـ24 جميعاً، فإن وزيراً واحداً إلى أي فريق انتمى في وسعه الحؤول دون صدور القرار، وإن أقرته الغالبية الوزارية.
بل في وسع وزير واحد متوجس من قرار ما صوّت عليه في مجلس الوزراء ثلثا المجلس وربما أكثر، إطاحته برفض توقيعه وهو يمثل جزءاً دستورياً من صلاحيات رئيس الجمهورية. ما يحيل الوزير الواحد في قوى 8 أو 14 آذار ـ ما دام السلاح ذا حدين ــــ أقوى من ثلثي مجلس الوزراء. وقد يكون أقوى من المجلس نفسه. لا تقتصر الإطاحة عندئذ على القرار فحسب، بل تجرف السلطة الإجرائية وتعطلها برمتها. ما يسعها إقراره لا يمكّنها بالضرورة من تأمين التواقيع الجامعة لإصداره ونشره ووضعه موضع التطبيق.