في فلسطين مجازر لا تنتهي. مشاهد قتل وعنف عمرها من عمر المشروع الصهيوني لاحتلال الارض وطرد الشعب وتزييف التاريخ وتدجين الحاضر ومصادرة المستقبل. انه شعب الله المختار الذي اختار أن يقضي على شعب، هو ايضا من أبناء الله، باسم القومية والدين والقوة والغطرسة منذ نحو قرن. المحتلُ يحتلّ المحتَل. انها حالة لم يعرف التاريخ مثيلا لها، ماضيا وحاضرا.
فإذا سلّمنا جدلا بأن شعب الله المختار يريد فلسطين بديلا من المحرقة النازية، فماذا تريد شعوب الله وأمراؤها على امتداد العالم العربي والاسلامي؟
انها ليست مؤامرة على العرب والمسلمين، وهي ليست خططا مستوردة. انها حالة جنون وانتحار يشهدها العالم العربي في مطلع القرن الحادي والعشرين، وهي حالات خَبِرتها شعوب اخرى، وكان آخرها في الحقبة المعاصرة الاستبداد المطلق في زمن النازية والفاشية والشيوعية الستالينية.
في العالم العربي مشروع استبدادي جديد ظهرت طلائعه في العراق حيث الخلافة الداعشية أفتت بطرد المسيحيين من الموصل وإخضاعهم في بيوتهم ووطنهم، ذنبهم الوحيد انهم مواطنون بلا حماية من عشيرة أو طائفة أو دولة أو ميليشيا. الاستقواء على الضعيف والمهمش باسم الدين لا يؤسس دولة ولا يبرره أي دين.
ما يحصل في العراق وسوريا ودول اخرى في المنطقة هو، في جوانب عديدة، نتاج محلي، أفرزته سياسات الأنظمة الاستبدادية وسقوط الدولة، لا سيما في المشرق العربي. ففي سنوات قليلة انهارت الدولة المركزية في سوريا والعراق وكذلك في ليبيا، ولكل حالة أسبابها، بينما تعيش مصر واليمن والبحرين أزمات كبرى.
مستر سايكس ومسيو بيكو رسما حدود مناطق نفوذ لورثة الامبراطورية العثمانية في المشرق العربي بينما الحرب العالمية الاولى مشتعلة ولم يؤسسا دولا، كما ان الاتفاقية الشهيرة في 1916 لم تَحلْ دون الصدام بين الهاشميين وآل سعود في عقر دار الإسلام والعروبة، إلا ان السلطة منذ الاستقلال كانت بيد الأنظمة وحكّامها. لقد تفككت دول عديدة في السنوات الاخيرة: في الاتحاد السوفياتي وأوروبا الشرقية بعد انتهاء الحرب الباردة، منها من افترق سلميا، مثلما كانت حال تشيكوسلوفاكيا، أو بوسيلة الحرب كما في الحالة اليوغوسلافية. إلا ان الدين ظل على الحياد ولم يُستغل لا في مرحلة سقوط الأنظمة وتفكك الدول ولا بعدها.
الشأن الديني مطروح عندنا، في دولنا ومجتمعاتنا العربية من المحيط الى الخليج، وفي زمن بلغ فيه الانقسام المذهبي أوجه داخل الدول وبين الجماعات. الشأن الديني محوره اليوم السلطة والتسلط وليس الدين بمعانيه وتعاليمه السامية، خلافا لما كانت عليه الحال في مطلع القرن المنصرم، بعد سقوط الامبراطورية العثمانية والخلافة الإسلامية، في زمن حركة الإصلاح الديني التي قام بها كبار المتنورين من علماء الأزهر وسواهم منذ أواخر القرن التاسع عشر، من الكواكبي ومحمد عبده الى علي عبد الرازق.
الغزو الاميركي للعراق في 2003، سبقه غزو العراق للكويت، كشف عورات المجتمع ولم يصنعها، والربيع العربي أخيرا كشف عورات اخرى، لعل أخطرها ان الديموقراطية قد تتحول أداة بيد السلطة لفرض نظام قيَم يتناقض مع مفاهيم الممارسة الديموقراطية التي ليست فقط عملية اقتراع حر يوم الانتخابات وتحكّم بالناس كل أيام السنة.
للدول الكبرى والصغرى مصالح وسياسات لا ترحم. فالولايات المتحدة، وقبلها دول أوروبية، لم تتوانَ عن دعمها المطلق لإسرائيل، مهما فعلت وبمعزل عن سياسة حكّامها. ولن تتغير المعادلات غير السوية في العلاقات بين الدول في هذه المنطقة أو في أي بقعة من بقاع الارض.
لوم الغير والبكاء على الأطلال والاستنجاد بالمؤامرة المنتصرة على الدوام لم يعد ينفع. فلا جديد في سلوك اسرائيل في عدوانها المتواصل في فلسطين من بن غوريون وجابوتنسكي الى شارون ونتنياهو. المشروع الصهيوني لم يتغير والمدرسة الفكرية والسياسية التي أنتجته هي هي، الوسيلة فقط تزداد بربرية، لتصل الى حد قتل المدنيين اللاجئين من جيل الى جيل في مدارس الاونروا.
أما العالم العربي فدخل في زمن قطع الرؤوس بعدما ولى زمن الايديولوجيات وسقطت ورقة تين الحداثة والعصرنة. مذابح متواصلة تستهدف الكفار، وبحسب الخليفة ابراهيم فهم الأحياء والأموات على حد سواء، مسيحيين ومسلمين وأتباع أي دين. لا شيء ثابت في عالم عربي مربك ومأزوم، دولا ومجتمعات: لا الدولة بحدودها، ولا الأنظمة باستبدادها، ولا الشعوب بولاءاتها، ولا الدين بتفسيراته.
انه عصر انحطاط جديد بطبعة معاصرة، وقد يكون الأبشع في تاريخ المنطقة. «داعش»، وما تمثل من منظومة متكاملة لتبرير القتل والتكفير الذي قد يصل الى حد الإبادة الجماعية، لم تأت من فراغ. غزوة في غزة وغزوة في العراق وبلاد الشام. واحدة سلفية يهودية واخرى سلفية إسلامية. والضحايا عرب، مسلمون ومسيحيون.
بعدما خسر العرب فلسطين، على رغم المقاومة المستمرة باللحم الحي، هل يخسرون أنفسهم ايضا مع طغاة التكفير وهمجية التفكير، داعشية كانت أم إفرازاتها؟ تلك هي المسألة والمأساة.