IMLebanon

تجذّر الصراع الطائفي في المنطقة

كلما طال أمد الأزمة في العراق وبلاد الشام، تجذّر العنف وتعاظمت أشكاله وفظائعه وصارت لعبة الدم والموت مسيطرة على المشهد وانتشرت الفوضى فوق كل الضوابط والقيود، لكن الأهم من ذلك تظهّرت صورة الصراع الطائفي؛ وسمعنا خطاباً فئوياً عارياً من كل المحسنات اللغوية وهذا ما نشهده في العراق لدى جميع الأطراف. تعكس اللغة الطائفية عمق المشكلة التي لم تجد حلها في صعود طرف وهبوط طرف سياسي آخر في المعادلة. بل هي استخرجت من تاريخ العلاقات المركّبة والمعقدة مخزوناً هائلاً من المظلوميات المتبادلة، أو على الأقل من نزاعات كانت أكثر وضوحاً في ثقافتها الدينية أو القومية. يصبح كل حديث عن الخرائط السياسية تفصيلاً أو تتمة لواقع الانقسام الذي يغطي الآن المشرق العربي الممتد من المتوسط إلى الخليج، حيث الإرث الثمين كذلك للتعايش أو للحوار بين المكوّنات المختلفة.

المسؤولية هنا سياسية لأن الجزء الأكبر من القرن العشرين كان مرحلة تعد بالتقدم نحو هويات غير تصادمية حتى لو أن تيار القومية العربية تجاوز على حقوق جماعات أو أنكرها أو أن أحزاب القومية العربية انتهت إلى تهميش فئات لها هويات لم تكن متوترة على الأقل.

يمكن تلخيص المشكلة في كون الأنظمة التي سيطرت رسّخت جذورها بالأمن والقمع السياسي وكافحت كل تيارات الحرية والتقدم تغطية لفشلها في إنجاز المهمات الوطنية والقومية. حصل تدمير ممنهج للقوى والتيارات والنخب التي كان يمكن لها أن تشكّل بديلاً للأنظمة في العراق وسوريا وامتدت أدوار الأنظمة هذه إلى مساحات وساحات واسعة عربية واستخدمت هذه الأنظمة الأموال النفطية الخاصة بها وتلك التي تولّى الخليج العربي نشرها ونشر ثقافته معها.

وصلنا اليوم إلى أوضاع تهون فيها مسألة انقسام الدول عند طبيعة القوى التي ستتولى إدارة أي منطقة. نحن أمام جماعات تريد فرض نموذجها الاجتماعي “الشمولي” المتخلف وتريد أن تستأنف صراعها مع الآخرين تحقيقاً لأهداف “مقدسة”، ولو أن الأمر لا يخلو أصلاً من تبعية هذه الجماعات لمصالح خارجية مزيج من الإيديولوجيات نفسها زائداً مطامع النفوذ والهيمنة.

لم تعد توجد في العراق وبلاد الشام أحزاب علمانية أو شبه علمانية ولا حتى قومية. اندثرت الأحزاب اليسارية وتفككت الأحزاب القومية وغيّرت صورتها وجلدها ولبست لبوساً دينياً وطائفياً ينسجم مع موقعها الحالي في الصراع. فإذا كان هذا الإقليم يشهد حروباً أهلية فهو كذلك يشهد حروباً بين الدول المجاورة ترعى هذه الحروب ولها هويات ثقافية دينية ومذهبية وقومية.

فالرباعي المؤثر (إسرائيل ـ إيران ـ تركيا ـ السعودية) وهو دول الطوق المحيط بالعرب وبقضاياهم، رباعي توطن نفوذه في الجماعات الأهلية العربية بألوانها الطائفية المختلفة. التوجه الإمبراطوري (الإمبريالي الإقليمي) زاد من تظهير هويته لا سيما الإيراني والتركي فضلاً عن مشروع يهودية الدولة الإسرائيلي، ومع قيادة السعودية لمعظم الحركات الجهادية السلفية. هذا الانحدار العربي تلاقيه أوضاع دولية ليس فيها أي تنافس على أفكار جديدة حول العالم، بل مجرد مصالح اقتصادية وأمنية وسياسية تكاد تتماهى بين الغرب القوي الموحد والشرق الصاعد هذه المرة خارج أي ثقافة كونية مختلفة. هكذا كانت الحال في الحرب العالمية الأولى التي تصارع فيها المستعمرون (الحلفاء والمحور) على اقتسام إمبراطوريات أخرى ضعيفة، بينما كانت الحرب العالمية الثانية مناسبة لتعزيز حركات التحرر والاستقلال.

لم يعد الهامش واسعاً أمام العرب لكي يوقفوا هذا المسار التفكيكي التدميري لا سيما وأن كل القوى الفاعلة على المسرح السياسي والعسكري هي جزء من مكوّنات الأزمة. فحين تسمع طرفاً من الأطراف يبرّر موقعه ودوره فهو محق بالنظر لما هو مؤهّل له بحكم طبيعته وتكوينه. فلا يمكن لهذه الأطراف في المحلي والإقليمي أن تتنازع وأن تستولد حالاً من التقدم طالما هي تنتمي للثقافة السياسية نفسها مهما اختلفت مفرداتها وسلوكياتها. هذه “المسوخ” من نماذج الإسلام السياسي نشأت أصلاً في العداء لكل ما هو تقدمي وإنساني ومن أجل مشروع إيديولوجي مركب من وعود مثالية غير واقعية ومن ارتباطات بمصالح مرجعيات لا تتأخر في الوقت المناسب عن إظهار وجهها السلطوي.

ما نتمناه الآن هو محاصرة هذا الحريق والدفاع عن بعض معطيات عربية لا زالت خارج الجبهة المباشرة. فلا نريد للخليج العربي أو مصر وشمالي أفريقيا أو لبنان أن تنضم بشكل أو بآخر إلى هذا الكرنفال الدموي. فإذا أمكن كبح جماح هذا النزاع فذاك مكسب إنساني وسياسي عكس كل الرغبات المندلعة لدى بعض الأطراف لإشعال كل المنطقة.