لدى تركيا “حزب العدالة والتنمية” الاسلامي أو المحافظ الحاكم منذ نحو 12 سنة سياسة داخلية مهمة ومدروسة أعطى تنفيذها نتائج مهمة على صعد عدة أبرزها الاقتصاد الناجح، والمعالجة القابلة للنجاح على الأقل حتى الآن للموضوع الكردي الداخلي الشائك، والمزاوجة الناجحة حتى الآن بين الحداثة والعلمانية التي أرساها أتاتورك والإسلام المحافظ والمعتدل في آن، والتقيد بالديموقراطية واستمرار ممارستها على رغم القيود التي فرضتها حكومات أردوغان وحزبه على عدد من الحريات، علماً أن هذه الممارسة لم تكن بدورها خالية من الشوائب أيام السيطرة المطلقة للعلمانية في تركيا، والغياب التام للحركات الاسلامية الفاعلة، وكذلك أيام انتشار الفكر اليساري ونمو الحركات المؤيدة له في الشارع. ولعل الشائبة الأكبر كانت اعتبار الجيش حامي العلمانية التي فرضها مؤسس الجمهورية في تركيا قبل عقود كثيرة، وضامن استمرارها، الأمر الذي ناط به عملياً ممارسة صلاحيات واتخاذ قرارات لا يمكن اعتبارها ديموقراطية. هذا ما يقوله عارفون بأوضاع تركيا، ليس فقط من قراءاتهم عنها، بل أيضاً من متابعة للحياة فيها بكل وجوهها، ومن زيارات شبه منتظمة لعاصمتها ولقاءات مع الكثيرين من الفاعلين فيها. لكن هؤلاء يقولون أمراً مختلفاً بل مناقضاً عن السياسة الخارجية لتركيا نفسها اي التي يحكمها “حزب العدالة والتنمية” الإسلامي أو المحافظ. فهي مشوّشة ومرتبكة حيناً ومتناقضة الأهداف حيناً آخر وفاشلة حيناً ثالثاً. ويدفع ذلك إلى التساؤل ما إذا كان لدى تركيا “الإسلامية أو المحافظة” المذكورة مشروع خارجي تريد تحقيقه. فتركيا العلمانية كان الانضمام إلى أوروبا (الاتحاد الأوروبي) أحد أبرز أهداف سياستها الخارجية. وكان الحفاظ على العلاقة الوثيقة مع أميركا هدف آخر بارز لها. أما تركيا التي خلفتها، أي تركيا رجب طيب أردوغان وعبد الله غول والنجم الصاعد من زمان أحمد داود أوغلو، فإنها تمسكت بالهدف الأوروبي، ولم تستطع أن تحققه بسبب رفض دول بارزة فيه. وهي لم تتخلَّ عنه رسمياً لكنها عملياً انتهجت سياسة تقرُّبٍ من العالم الإسلامي والعالم العربي الذي هي جزء منه، ومارست سياسة تدخل في دوله وقضاياه معتبرة نفسها قطباً إسلامياً كبيراً لا بد أن يكون له دور ريادي في المنطقة. وتركيا هؤلاء نفسها تمسّكت بسياسة التحالف مع أميركا لكنها لم تتجاوب على نحو كامل مع مخططاتها الشرق الأوسطية كما تركيا أتاتورك وحلفائه. وعلى العكس من ذلك فإنها اتخذت مواقف سياسية “إسلامية” متشدّدة أحياناً، وخصوصاً في موضوع اسرائيل، الأمر الذي دفع الرأي العام التركي، بغالبيته أو بجزء كبير منه، إلى التوجه نحو رفض الانضمام إلى أوروبا، ونحو رفض السياسة الأميركية في المنطقة. والسياسات التركية “الإسلامية” هذه لم تحقِّق النجاحات التي توخاها أصحابها منها. ففي سوريا كان الفشل ذريعاً، وفي مصر كان الفشل ذريعاً، وفي العراق كان الفشل ذريعاً. ومع أميركا وأوروبا استمرت الخلافات وتفاقمت أحياناً.
هل تغيّر تركيا “العدالة والتنمية” الإسلامية أو المحافظة سياستها الخارجية سواء بقيت برلمانية نظاماً أو أصبحت رئاسية العام المقبل؟
عارفو أوضاعها أنفسهم لا يبدون متفائلين بذلك. فتنظيم “داعش”، وبإجماع مصادر المعلومات الغربية والعربية و”الإسلامية”، شاركت تركيا وبنصيب كبير في تدريب كوادره وأعضائه وفي تسليحهم وفي تمكينهم من العبور من سوريا وإليها. ولدى أجهزتها الوثائق التي تثبت ذلك لأنها دولة منظمة ذات إشراف حديدي على حدودها. ولم تكن وحدها في ذلك طبعاً، لكنها لم تكن هي من أسّسه. وبعدما حقق “انتصاره” في العراق بمساعدة غالبية المكون السني فيه، وبعدما بدأ العمل لوقف “نجاحات” نظام الأسد خلال السنة الماضية ضد الثائرين عليه، بدأت تركيا الإسلامية تشعر بالقلق. فهي ليست مع الأيديولوجية الدينية السعودية ولا مع المجتمع السعودي ونظامه. وانتشار حركات ولدت من رحيمهما في شكل أو في آخر على حدودها لا يبشّر بالخير. وهي ليست حليفة لإيران، على رغم علاقتهما الثنائية الجيدة. لكن المشكلة أن الشيعة موجودون على غالبية حدودها. هذا التعثر أو التشوّش في السياسة الخارجية قد يكون دفع تركيا إلى حضور اجتماع جدة المؤسس للاتحاد الدولي لمكافحة إرهاب “داعش”، وإلى الامتناع في الوقت نفسه عن توقيع ما صدر عنه، علماً أن محاولات اقناعها بالانضمام التام إليه ستستمر.