تسع سنوات أغرقَ فيها العماد ميشال عون قوى «14 آذار» بكلّ فنون التوافق. تسع سنوات بلَغ فيها التوافق أشكالاً لم تعرفها الحياة السياسية في لبنان،
لم يوفّر فيها الجنرال قوى
«14 آذار»، وتحديداً تيّار «المستقبل»، وتعميماً الطائفة السُنّية، بكلّ العواطف الممكنة، من تحريض وتشهير وملاحقة للشهداء في أضرحتِهم.
لم يسلم رفيق الحريري من لسانه، حين تحدث عن ملاحقة «الفاسدين»، حتى تهتزّ عظامُهم في القبور. استهدفَ عون رفيق الحريري شهيداً، بما امتنعَ عن أن يقوله بحقّه في حياته.
يروي الصحافي ميشال حجي جورجيو، كيف قال له عون في إحدى المرّات عام 2006، عن حلمِه بتحويل ضريح الحريري شيئاً آخر. كلّ هذا الهجوم على الضريح، بدا وكأنّه ترجمة لغيرةٍ دفينة من رفيق الحريري وهو شهيد.
تسع سنوات أبدع فيها عون وفريقُه وإعلامُه في ملاحقة الشهداء. استشهاد سمير قصير حدَثٌ أمنيّ أو لأسباب نسائية… جورج حاوي قُتِل بسبب صفقات تجارية… بيار الجميّل، جبران تويني، وليد عيدو، وآخرُهم وسام الحسن الذي هدَّده حليف عون من منبره، تماماً كما هدَّده الجنرال بالقول: «يلّلي بدقّ بالتوتر العالي بفَحمو».
لا حاجة للتذكير بالسنوات التسع وما حفلت به من مآثر، ولكنّ الانقلاب من حال «التوافق» العوني إلى إبداء مشاعر الحب في أقلّ من عام واحد على أبواب الاستحقاق الرئاسي، استحقَّ العودة إلى أرشيف الجنرال الذي افتتح حبَّه لتيار «المستقبل» وللرئيس سعد الحريري بشِعار: «ما في نوى إلّا سَوا».
وبما أنّ الجنرال يُحبّ نبش الذاكرة، فلا بأس من تذكيره بكل كلمة قالها.
خرجَ عون ذات يوم من الرابية، وكان ذلك وللتأريخ الصحيح في
5 أيار 2012 ، ليقول متوجّهاً إلى الرئيس سعد الحريري وقوى «14 آذار»: «يا أولاد الشائعات»، وعزفَ في نبرة صوته عزفاً مسيئاً، على إيقاع أبناء الشائعات. في التصريح نفسه يقول عون: «تبيّنَ لنا في حوارنا مع تيار «المستقبل» أنّ هناك خلافات جَذرية حول مفهوم الشراكة والتوازن في السلطة». وأضاف في التصريح نفسِه: «كان رفيق الحريري يزور ليليّاً السيّد حسن نصرالله، فسألت يومَها السفير جيفري فيلتمان، لماذا هذا الأمر ممنوع علي؟ ربّما لأنه (الحريري) كان يخبرهم تقديرات ومعلومات وغيرها من الأمور بعد كلّ لقاء لكي لا نقول أكثر… عشرات مليارات الدولارات مفقودة. وهذا مال مسروق». وتابع: «يتصرّفون بالضرائب كخوّة يضعونها في جيبهم. سنقول لهم إنّ الحقيقة ستظهر». في كثير من مآثر تلك المعركة مع الحريرية السياسية، بدا عون في انتقال سريع من موقع الحليف إلى الخصم الشرس، بلا شرح الأسباب. لكنّ مصادفة واحدة كانت تحكم تلك المواقف الدافئة والهجومية: الاستحقاق الرئاسي.
كان عون أوّل مَن اعتبر رفيق الحريري شهيدَ كلّ لبنان. لكن عندما عاد إلى لبنان، أصبحَ الحريري فقيد العائلة. وبصرفِ النظر عن الأسباب، فإنّ التحوّل الذي تشهده مواقف الجنرال الحمائمية، قبل الاستحقاق الرئاسي تشي بأنّه ما زال يحلم بالمعادلة التي حاول إقناع الحريري بها، عندما زاره في الرابية: «تعالَ نتّفق على أن أكون أنا بشارة الخوري وتكون أنت رياض الصلح».
مفارقات مُذهلة
العودة إلى الأرشيف الشخصي للجنرال تحمل مفارقات مُذهلة…
في 13 تشرين الثاني 2006 سبق «حزب الله» في الهجوم على المحكمة الدولية، وقال «إنّ قرار حكومة الرئيس فؤاد السنيورة الموافقة على نظام المحكمة الدولية في قضية اغتيال الحريري لا معنى له».
في 5 حزيران 2009 هاجمَ الرئيس سعد الحريري، وقال: «الموجودون في الحكم حاليّاً أدركوا السرّ وخصوصاً مدرسة الحريري التي هي أسوأ مدرسة سياسية، لأنّها قائمة على الفساد والإفساد».
في 4 شباط 2011 قال: «الحريري هو أحد أركان مجموعة الشهود الزور، وبالتالي القضيّة أصبحت خطرة جداً، حيث إنّ وليّ الدم هو أحد الشهود الزور ويجب استجوابه واستجواب جميع الشهود الزور».
في 17 آذار 2013، لم يجفّ الحبر على موقف آخَر للجنرال، حيث قال: «الحريرية السياسية أورَثتنا فساداً في القضاء والإدراة والأمن»، مضيفاً: «أمامنا طريق طويل لإصلاح الإهمال الذي حصل في عهدهم… إستلمنا إرثاً ثقيلاً من سرقات أموال وسطو على الحقوق».
بعد كلّ ما قيل من إبراء وافتراء غير مستحيل، حصلت معجزة اللقاء بين الحريري وعون، ووضعَ الجنرال أرشيفَه في الأرشيف. غابت لغة الاتّهام بالفساد، وأصبح «سعد الدين الحريري» داعية انفتاح وسلام، وتحوّل «التكفيري» أحد أضلعِ السيبة الثلاثية، سيبة المثالثة، التي يحلم الجنرال بأن تكون جسراً للوصول إلى قصر بعبدا.
تسع سنوات من التوافق، لاحقَ فيها الجنرال ضابطاً في الجيش اللبناني لأنّه تجرّأ على أن يطير بطوّافته فوق أرض لبنانية.
تسع سنوات من التوافق، هلَّل فيها للسابع من أيّار، وشارك فيها رأس حربة في مواجهة المحكمة الدولية.
تسع سنوات من التوافق نسِيَ فيها شهداء 13 تشرين، وذهب إلى النظام السوري مُبرئاً إيّاه من إخفاء الجنود الذين حاربوا بالنيابة عنه، والرهبان الذي اختفوا في دير القلعة.
تسع سنوات من التوافق أعلن فيها من الرابية إسقاط حكومة سعد الحريري، بالنيابة عن «حزب الله».
تسع سنوات من التوافق كانت كافية ليستهلّ بها سنة الحب الحاليّة، بأكثر الأدلّة إقناعاً بأنّ بذّة التوافق التي لبسَها لا تليق إلّا به.
تسع سنوات من التوافق والخطاب زاخر بكلّ الممنوعات. من بطن السقاية، إلى تحت الزنّار، إلى الصراخ والشتائم، وكلّها استنابات بالنيابة عن «حزب الله». لعبَ دور البطولة في مواجهة المحكمة، وفي نقلِ البندقية من كتِف إلى كتف، كلّ ذلك من أجل فخامة الكرسي.
لكلّ هذه الأسباب فإنّ سنة العشق التي توّجت سنوات التوافق، باتت الأشهَر في لعبة الحب من طرف واحد. يقول عون لتيار «المستقبل»: التوافقي يحبّكم. يرسل رسائل الغرام مباشرة وعبر الحمام الزاجل. لا يقتنع بأنّ ما ارتكبَه من «توافق» هدمَ كلّ الجسور. لا يأبه للعهد المكتوب المنقوض الذي قطعه للكنيسة بتأمين النصاب.
لا يريد الجنرال أن يصدّق أنّ بعد كلّ هذا «التوافق»، لا مجال لتطبيق شعاره: «ما في نوى إلّا سوا».
على الأرجح سيضطرّ فيما بعد إلى شطب آخر كلمتين من هذا الشعار.