IMLebanon

تصادم ثقافات الإلغاء

قرار مجلس الأمن الدولي الصادر ضد حركتي «داعش» و«النصرة» تحت الفصل السابع لا يملك وسائل تنفيذية واضحة وربما يأخذ أسلوب الضربات الجوية، كما فعلت أميركا في كردستان. مجلس الأمن لا يقدم حماية للجماعات التي تتعرض للإبادة أو التهجير ولا هو يستخدم الكثير من الوسائل الدولية القانونية للجم أعمال العنف والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب، سواء ضد الجماعات أو الدول. المجتمع الدولي يقلق من ارتدادات الإرهاب نحوه ولا يقلق من تداعيات هذه الحروب الأهلية التي تفتك بمجتمعات المشرق العربي.

الغرب لا تعنيه اليوم مسألة الأقليات، كما كانت في القرن التاسع عشر، بوصفها جزءاً من استراتيجية الحضور الثقافي والاقتصادي والسياسي. عملياً لا تتمتع الأقليات بهذه الميزات السابقة و«الأكثريات» انخرطت في علاقات تبعية مع الغرب إلا ما صار يُعرف بالأصوليات كردة فعل على نتائج هذه التبعية. استخدم الغرب «حركات الإرهاب والتكفير» ضد المجتمعات الإسلامية للمزيد من إخضاعها وتعطيل استقرارها ومنعها من مواجهة تحديات التنمية. وهو الآن يرعى هذه الحركات ليس فقط لإسقاط الحدود الجغرافية بل لشرذمة وتفتيت المجتمعات من الداخل. أي دولة في العراق أو سوريا أو لبنان مهما كانت دساتيرها حديثة، وأي اجتماع سياسي مكوناته حركات دينية متشددة ومسلحة، وأي صياغة لعيش بين هذه السلالات التاريخية من الأديان والقوميات والاثنيات والمذاهب في ظل ثقافة حصرية إلغائية للآخر؟ هذا التحدي فعلاً هو «تحدٍ وجودي»، لأننا بعد ربع قرن من وقف الحرب الأهلية في لبنان لم نعرف كيف نعيد بناء الدولة وننشئ نظاماً يؤمن المشاركة والاستقرار. ولا استطاع العراق بعد عشر سنوات من العملية السياسية أن يضطلع بمسؤوليات إعادة البناء وتركيز فكرة الدولة واحتواء الأحزاب المسلحة من كل الأطراف برغم عدم وجود تحديات خارجية. ولا ندري كيف يمكن ان تستعيد سوريا كيانها كدولة حتى لو شملت سلطتها جميع الأقاليم بعدما خسرت كل تراثها الوحدوي الوطني وتمزق نسيجها الاجتماعي والسياسي وهي تشهد تبدلات ديمغرافية تصعب معالجتها مادياً ومعنوياً. فهذا النوع من الحروب والنزاعات كلما توغلنا فيه بالعنف على فرض وجود منتصر ومهزوم زادت صعوبات تسويته سياسياً وتعمّقت عناصر النبذ فيه. وتزداد المشكلة تعقيداً لأن «الجبهة» التي تتصدى لهذا «الإرهاب التكفيري» هي جزء من الأزمة العربية ومن الانقسامات والصراعات الأهلية والطائفية. فليس هناك من طرف عربي أو إسلامي يملك مصداقية في مواجهة «الإرهاب» طالما أنه متورط في رعاية الإرهاب أو هو مسؤول بشكل أو بآخر عن الفوضى العربية التي هي المناخ الضروري والبيئة الحاضنة الحقيقية للإرهاب والتطرف والعنف.

أما الدول التي تحيط بالعراق وبلاد الشام فهي جميعها متورطة مباشرة في هذه الصراعات فإن لم تكن تدير الإرهاب فهي تدير الفوضى التي تغذي الإرهاب. ولم يعد الآن من مخرج لهذه الأزمة الوجودية إلا في تواضع هذه الدول بأهدافها ومصالحها وإدارة حوار صادق من أجل حلول سياسية على الأقل تفادياً لامتداد هذا الحريق إلى بلدانها.

قد يكون تشكيل حكومة وحدة وطنية عراقية بادرة إيجابية ومؤشراً لواقعية في ما خص نفوذ الدول الإقليمية، لكن ذلك لا يحل مشكلة «داعش» ولا ينسحب بالضرورة على سوريا ولبنان، ولا نكون بالتالي قد وضعنا الأمور على سكّة الحل السياسي. فحين يتمسك طرف رئيسي بمنطق إملاء الشروط على انتخاب رئيس للجمهورية في لبنان خارج المعطيات الديموقراطية نكون أمام الحالة نفسها من ثقافة الغلبة لا من ثقافة التسوية. وفي ثقافة الغلبة هذه يكمن منطق الإقصاء والعنف. فإذا كنا حقاً أمام أخطار وجودية فالأولى ان نعالج مشكلاتنا بالتسويات السياسية لا وفق حسابات القوى التي لا تنتج حلولاً ولا استقراراً ولا تقدماً.