ثمّة تعقيدات غير محسوبة طرأت على الملفّات الإقليمية الكبرى
فعلى مستوى المفاوضات الإسرائيلية – الفلسطينية، وهو الباب الذي اختارته واشنطن لتفتحه أوّلاً قبل الدخول في الملف الإيراني الكبير والمتشعّب، بدَت الأمور جامدةً وغيرَ قابلة لتحقيق أيّ تقدّم في ظلّ تمسّك الحكومة الاسرائيلية المتشدّدة بعدم تقديم أيّ تنازلات جدّية. وحسب أوساط ديبلوماسية أميركية فإنّ هذا الجمود دفع بالبيت الابيض الذي باشَر سياسة احتواء «الخطر» الصيني إلى توجيه لومٍ لوزير الخارجية جون كيري الذي كان قد التزم تحقيق اختراق كبير خلال ولاية الرئيس باراك اوباما الثانية. ما دفعَ المبعوث الاميركي الخاص لعملية السلام مارتن انديك لتقديم استقالته الى كيري مُعلّلاً إيّاها بحال اليأس التي أصابته نتيجة التعَنُّت الإسرائيلي.
وحسب هذه الأوساط فإنّ انديك بقي متمسّكاً بموقفه، على الرغم من الضغوط التي مورست عليه للعودة عن الاستقالة. وعلى الرغم من ترجيح البعض في الخارجية الأميركية إمكانية عودة انديك عن موقفه، واضعين خطوته في إطار الضغط على الحكومة الإسرائيلية، خصوصاً أنّها تزامنَت مع بدء زيارة رأس الكنيسة الكاثوليكية الى الاراضي المقدّسة، إلّا أنّ وزير الخارجية الاميركية طلب من مستشاره الخاص فرانك لوينشتاين تحضير نفسه لتولّي مهمّة انديك، وهو ما يعني دخول المفاوضات الإسرائيلية ـ الفلسطينية في مرحلة الغيبوبة، ما سينعكس على المخيّمات الفلسطينية في لبنان التي تشهد أصلاً مرحلة تصفيات داخلية للإمساك بقرارها.
أمّا على المستوى الاميركي ـ الايراني فإنّ الموعد الذي كان قد حُدِّد لإنجاز «التسوية التاريخية» بين الإدارة الاميركية والجمهورية الإسلامية الإيرانية قد يتأخّر بعض الوقت. ففيما كان الكلام عن حزيران ثمّ تمّوز أو آب، بدا أنّ الموعد الجديد يتّجه إلى مزيد من التأجيل في ظلّ مفاوضات صعبة وقاسية.
وعلى رغم ذلك فإنّ الأوساط الاميركية تبدو واثقة من نهاية سعيدة ومثمرة لهذه المفاوضات رغم النزاع الايراني الداخلي بين الإصلاحيين والمحافظين. لا بل إنّ الكلام الرائج داخل الأروقة الديبلوماسية الاميركية هو أنّ التسوية الاميركية – الإيرانية المنتظرة تشبه الرصد، بعد الاتفاق الذي أنجزَته واشنطن مع الصين في سبعينات القرن الماضي وخلال رئاسة ريتشارد نيكسون. يومها سطعَ نجم وزير الخارجية السابق هنري كيسنجر الذي حقّق هذا الإنجاز بعد نزاع طويل بين البلدين، خصوصاً في فيتنام، حيث خسرت واشنطن عشرات الألوف من جنودها.
أمّا اليوم فإنّ هذه المفاوضات تحصل بعد عقود من النزاع العنيف الذي طاولَ ساحات كثيرة، وكان للساحة اللبنانية نصيبها الوافر، حيث تمّ تفجير السفارة الاميركية ومن ثمّ مقرّ «المارينز»، ما أدّى إلى انسحاب القوات الاميركية من لبنان. وتلا ذلك احتجاز رهائن اميركيين وغربيين قبل ان تقتنع واشنطن بالمفاوضات مع طهران كسبيل لحلّ المشكلات بينهما بعد فشل حرب تمّوز 2006 على حزب الله في لبنان والرهان على سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا.
ولذلك تبدو الأوساط الديبلوماسية الاميركية على اقتناع بأنّ الاتفاق الكبير مع إيران سيحصل ولو شهدَ بعض التأخّر. ونظراً لأهمّية هذا الاتفاق وبهدف تحصينه مستقبلاً سيطرحه البيت الأبيض أمام الكونغرس للتصويت عليه انسجاماً مع التفاهم الداخلي حوله.
أمّا المفاوضات السعودية ـ الايرانية فإنها تسير بشيء من البطء. بسبب الحساسية الموجودة أصلاً، أو بسبب التأخّر الذي طرأ على إنجاز التسوية الاميركية ـ الايرانية، والأهمّ بسبب النزاعات الداخلية لكلا البلدين.
لكنّ المعلومات تؤكّد حصول اللقاء بين وزيري خارجية البلدين قبل شهر رمضان، على أن تطرح إمكانية حصول زيارة الرئيس الايراني الشيخ حسن روحاني للسعودية التي كانت قد تأجّلت سابقاً.
ومن الطبيعي أن يقف الشارع اللبناني قلقاً إزاء كلّ هذه المستجدّات، وهو الذي دخل لتَوِّه في فراغ رئاسي نتيجة التعقيدات الإقليمية، لكن ورغم هذه الصورة المربكة، إلّا أنّ الاوساط المراقبة لا تبدي المقدار نفسه من القلق. ذلك أنّها وعلى رغم معرفتها بانشغال العالم بقضايا أكبر من لبنان إلّا أنّها تبدو على اقتناع بأنّ خفض نسبة التوتّر على الساحة اللبنانية يبقى شرطاً من شروط التوجّه الإقليمي الجديد، وهو ما يتطلّب في نهاية المطاف تحصينَ الاستقرار من خلال انتخاب رئيس جديد.
فالسفير الاميركي في بيروت ديفيد هيل أقرّ أمام أحد السياسيّين اللبنانيين بأنّ بلاده أخطأت في تعاطيها في الشأن الداخلي اللبناني خلال المرحلة الماضية. ورئيس أركان الجيوش الاميركية الجنرال ديمبسي أعلنَ أن ليس لبلاده خططٌ جاهزة لما بعد الأسد، ولهذا الكلام معناه البليغ.
وبالإضافة الى الرغبة الدولية الواضحة بعدم التصادم، فإنّ الشغور الرئاسي سيشكّل عاملاً داخلياً مساعداً، ذلك أنّ خروج الرئيس ميشال سليمان من المعادلة سيزيل بعض التعقيدات، بما معناه أنّه كان من الصعوبة في مكان الشروع في ترتيبات داخلية من دون إشراك رئيس الجمهورية فيها، ما يجعله شريكاً في أيّ تسوية مطروحة. أمّا الآن فإنّ الطرف المسيحي، وخصوصاً النائب ميشال عون سيجد نفسَه أكثر إرتياحاً في التحرّك تجاه تيار «المستقبل» مع أقلّ عدد ممكن من «الشركاء»، ويمكن فهم مؤتمره الصحافي الأخير من هذه الزاوية.
وهذا يعني أنّ قنوات التفاوض الجدّية لن تتأخّر في معاودة نشاطها، ولكنّ هذا يعني أيضاً أنّ الدخان الابيض سيأخذ وقته حتى الصيف المقبل قبل أن يتصاعد، انسجاماً مع المناخ الاقليمي الحاصل، ووفق تسوية من بنود عدّة تسمح بانفراج رئاسي.