كان كل من «أفلاطون» و«أرسطو» يرى أن الديموقراطية أسوأ أنواع الحكْم، فهي عند«أفلاطون»رديفة الفوضى، لأن العامة يتبعون أهواءهم وشهواتهم. أما عند «أرسطو» فإن الديموقراطية تعني حكْم الفقراء، لأن هذه هي صفة الغالبية من العامة، ويقابلها حكْم الأرستقراطية، أي حكْم الأفاضل، أو حكْم الفرد أو الملكية. وحكْم الأرستقراطية هو بنظره الأفضل، لأنه حكْم أهل الرأي والخبرة.
يبدو أن زعماءنا ونوابنا هم من طينة «أفلاطون» و»أرسطو»، يكرهون الديموقراطية، ويزعجهم حكْم الشعب، ويؤرقهم تداول السلطة. لا شك فـي أن شعبنا اليوم، فـي غيبوبة وضياع، إرتضى التقوقع وراء زعمائه ومذاهبه، حتى بات، أسير هذه الطبقة السياسية الفاشلة، وأسير تعصّبه الأعمى.
خمس سنوات ونصف السنة، مضى نصفها من دون حكومة، وكلّها، من دون موازنة، من دون كهرباء وماء، من دون أمن واستقرار، من دون هيبة ولا سيادة ولا إقتصاد، من دون سقف للدين وفوائده، من دون قانون جديد للإنتخاب، من دون رئيس جديد للجمهورية…
أيها السادة النواب، تركتم مليوناً ونصف مليون نازح سوري يتغلغلون فـي قرانا ومدننا، حتى باتوا يشكّلون قنابل موقوتة مزروعة في كل الأراضي اللبنانية، وحتى أصبحنا حقيقةً نحن الضيوف وهم أرباب المنزل، فتهجّر شبابنا إلى أقاصي الدنيا يفتشون عن لقمة عيشهم، وعن دولة تحميهم وتردّ عنهم الموت أو الإستشهاد. جيشنا الباسل يقاتل «الداعشيين» والتكفيريين والإرهابيين، ويسقط له شهداء أبطال، ليحافظ على الوطن، وبعض زعمائنا يلهثون وراء كرسيّ أحلامهم، وآخر هـمّهم مصير الوطن. فــ»الأنا» عندهم أهمّ من الإستقرار والإقتصاد والمؤسسات وكل أحلام الشباب وطموحاته.
إن التمديد لهذا المجلس، تحت أي ذريعة، عيب وحرام وخيانة: عيب، لإنه انتهاك فاضح للدستور والقوانين، وإلغاء للديموقراطية التي كان لبنان أول روادها في هذا الشرق. وحرام، لأنه تزوير للوكالة التي منحها الشعب لنوابه والمحدّدة بأربع سنوات غير قابلة للتجديد أو التمديد. وخيانة، لأن النائب الذي يقاطع الجلسات النيابية ليمنع إنتخاب رئيس جديد للجمهورية، لا يحق له الحضور إلى المجلس ليمدّد لنفسه، بعدما تخلّى عن أقدس واجب يفرضه الدستور.
في سوريا والعراق، حيث «داعش» و»النصرة»، وحيث القنابل والبراميل المتفجرة والسيارات المفخّخة، جرت الإنتخابات النيابية والرئاسية. وفي لبنان، حتى في زمن الإحتلال الإسرائيلي والإنتداب السوري، جرت الإنتخابات النيابية والرئاسية، فهل يجوز اليوم، بعد أن تحرّر الوطن وتخلّصنا من الوصاية، أن نبقى بلا رئيس، ومع مجلس نيابي مُمدّد له، يحاول التمديد مرة جديدة؟
فإذا كان هذا المجلس المنقسم عمودياً وأفقياً، والذي مدّد لنفسه سنة وخمسة أشهر، لـم يتمكّن من وضْع قانون جديد للإنتخابات النيابية، ومن إنتخاب رئيس جديد للبلاد، فهل مسموح له أن يتواطأ على الشعب مرة ثانية ويمدّد لنفسه بلا وجه حق، ليستمر الفراغ فـي كرسي الرئاسة إلى أجَل غير مسمّى؟ هذا ما ندعوه عهراً سياسياً ووقاحة واستبداداً.
وإنني متأكد أن «أفلاطون» و»أرسطو»، لو علما أنه سيولد مثل هذه الطبقة السياسية الفاشلة البعيدة أشدّ البعد عن الحكمة وروح المسؤولية والمواطنة الصحيحة، لغيّرا نظرتيهما الرافضتين للديموقراطية والمؤيّدتين للأرستقراطية.
منذ سنة 1870 ولعنة «وليم طومسن» تلاحقنا: «إن اللبنانيين يعتبرون أن طائفتهم هي أمتهم، وقبيلتهم هي وطنهم، وسيبقون هكذا، كما هم اليوم، منقسمين وغير قادرين على إنشاء وطن»… كثيرون حاولوا خلال قرن ونصف قرن التخلّص من هذه اللعنة، فناضلوا وسُجنوا واستشهدوا، وبقي الوطن على حاله مفتتاً، وبقي أبناؤه عشائر متباعدة ومتناحرة، وكل عشيرة تؤلّه زعيمها وتعتبره مـخلّصها، إن كان على خطأ أو على صواب.
فمتى يستفيق شعبنا من سباته العميق؟ متى ينزع الغشاوة عن عينيه وينتفض على الذين أوصلوا الوطن إلى هذا الضياع والفراغ والخراب؟ لست متفائلاً كثيراً، بالرغم من التحرك المحبّب لبعض الناس الطيبين الذين بدأوا بتوزيع صناديق البندورة على النواب، تعبيراً عن سخطهم ورفضهم التمديد، ولكنني، وعلى الرغم من كل هذا الذلّ والقحط والغيبوبة لن أيأس.