في سورية، فتح اللبنانيون ميدان تمارين قاتلة، حملوا ما تيسر لهم من ذخيرة ماضية، وأضافوا إليها من حيثيات وجودهم في مسرح القتال السوري، ذخائر وأسلحة جديدة. فوق ذلك المسرح، الذي ظنه بعضهم بعيداً، أفلت العنف الذي كان مضبوط الإيقاع في الديار اللبنانية، وحيث ظن كثيرون أن الخراب يعمُّ في بلاد أجنبية، عاد أولئك ليكتشفوا، أن زلزال الخراب أصاب بلدهم بارتداداته.
لم يكن الذهاب للقتال في سورية موقفاً سياسياً آنياً، استدعى وراكم مواقف أخرى. لقد كان الانضمام إلى الصراع السوري، قراراً واعياً استوفى شروط نقاشه، وأعدت له كل لزوميات تنفيذه، وأجريت لتداعياته المرتقبة كل الحسابات. هذا لا يتعارض مع القول، إنه ليس بالضرورة أن يتطابق «حساب حقل السياسة، مع بيدر نتائجها»، ولعل ما هو واضح حتى الآن، أن المفارقة هي التي تحكم منطق الدخول إلى المستنقع السوري، بالقياس إلى ما قاد إليه هذا المنطق من نتائج سلبية.
أخطار كثيرة عادت لتتقدم واجهة الاحتمالات اللبنانية، تنطلق من السياسي لتلامس المصيري. بعضها كان كامناً، فإذا ما أطل فعلى التباس أو تدوير زوايا، وبعضها ربما كان قد سلك طريق الاستكانة والتفكير في البحث عن مخارج جديدة، للمعضلات القديمة المزمنة، لكن كل ذلك عاد إلى ما قبل التأسيس الاستقلالي، بعد أن ظهر جلياً، أن المجموعات اللبنانية لا تكمن إلا في انتظار تحديد ساعة الخروج، وأن ما يبدو هدوءاً في أحوالها وفي مسالكها، لا يعدو كونه فترة تحضير وإعداد للذات الأهلية، التي ما إن تستشعر قوة لديها، ووهناً لدى «جيرانها»، حتى تخرج على الجميع شاهرة سيوف مطالبها الخاصة، التي لم تحمل في الحالة اللبنانية، إلا الاضطراب العام بوجهيه السلمي والحربي. السؤال عن الوطنية اللبنانية، كإطار تساكن جامع، وكجملة من البديهيات المتعارف عليها والمعترف بها، باتت الإجابة عنه صعبة. فلقد أصاب التمرين اللبناني المتمادي في سورية، بنية الوطنية الهشة، بدمار إضافي. صار من الصعب أكثر، تعريف اللبنانيين، تعريفاً غير مسبوق باسم الطائفة، وباسم المذهب، ومع التعريف الصعب، بات أمراً شديد التعقيد، التقيد فقط بذكر المذهب، دون إلحاقه بنعوت شتى، من ضمنها تسليم الشأن الوطني للإدارة الخارجية، وجعل أبناء المذهب المحدد، جزءاً من المشاريع السياسية العامة لهذه الإدارة. ماذا يعني ذلك غير «الخيانة»؟ أليس كل تنفيذ لإرادة خارجية، وكل ارتباط بها، على أي وجه من الوجوه، هو تعامل مع أجنبي؟ على هذه الصورة، يتقاذف اللبنانيون كرة الخيانة، بما هي استدعاء الأجنبي أو الالتحاق به، ولأن سورية اليوم، ملعب خارجي بامتياز، فإن «الخونة اللبنانيين»، لا يجدون حرجاً في رميهم بهذه التهمة، ولا يعدمون وسيلة لدفعها، بالشروح الوطنية والإسلامية والثورة والمقاومة، وصولاً إلى قاموس الحرية والديموقراطية وسائر المفردات.
على ما تقدم، وإذا كانت مسألة الانتماء على مكان ما، فكرة تأسيسية، يمكن القول إن التأسيس اللبناني الأولي، يعيش على خط الزلازل الداهمة، ولا يخفى أن فكرة الكيان في لبنان تنهل من مصادر عدة، باتت تحتل في وجدان طوائف «كيانية» مرتبة «الإيديولوجيا»، لذلك فإن الواقع الحالي يكاد يمسّ مسّاً حقيقياً مكونات الفكرة، التي تجعل من الذين يعيشون في كنف الجغرافيا الخاصة بها، أعداء «تأسيسيين» على صعيد إيديولوجي، وعلى مختلف أصعدة الحياة اليومية، بأسئلتها الشائكة، وبحلولها المفتوحة على اللا حلول.
في ظل ذلك، ماذا تصير السياسة؟ ليس أكثر من مذاهب دينية وطائفية، وكيف يكون الاجتماع؟ لا يذهب أمره أبعد من «مناطق التجميع»، التي يتداخل سكن أفرادها، بحكم الموروث الديموغرافي، ولا يشترك وارثو السكنى، بالكثير من مقتضيات التساكن. من الواضح أن السياسة تصبح عصية على النفاد ضمن هذه «التجميعات»، لأن السياسة، على معناها العام، تظل غريبة عن البيئات الحصينة، التي لا تنتج إلا حصاناتها الدينية والمذهبية.
لوحة التباعد، التي تتضمن الفكرة والسياسة والاجتماع، تقترب من تثبيت خطوط الافتراق الواقعي، الذي يلزمه الكثير ليصير افتراقاً عملياً، وتواجه صعوبات وتعقيدات في الوصول إلى هذه الصيرورة، لكن ذلك لا يلغي أن الافتراق بات فكرة مطروحة، من ضمن أفكار أخرى!. هذا يعود ليستحضر السؤال مجدداً: ما هذه الكيانية التي تعود لتواجه مصيرها عند كل مفترق؟ وكم يستوعب أبناء هذه الكيانية، معنى المسالك الخطرة التي تقود إلى هذه المواجهة؟ ولماذا يقدمون دائماً على السير في المسالك ذاتها التي جرى تجريبها؟!
لقد أدّى الجهر العالي بإثبات الذات، إلى التقليل من شأن الذوات الأهلية الأخرى، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل أعيد تعريف الآخر في البلد، من خلال قربه أو بعده، من هذه الطائفية أو تلك المذهبية. والتعريف، في وضعية التباعد والتنابذ، لا يتوقف كثيراً عند الموقف السياسي المختلف، بل يتجاوزه إلى صفات الآخر، فيسقطه أخلاقياً ومعرفياً… ليوحي أنه يسقطه وجودياً، أي يستبعده كفعل حاصل في الوجود، وكذات لها مقومات كينونتها، وضرورات استمرارها وأشكال تعبيراتها.
لقد بدأ محو الآخر اللبناني من جديد، عندما انخرط اللبنانيون في محو الآخر السوري. كان السوريون الآخرون «شخوصاً» في حقل رماية. هناك، في سورية، قتل كل لبناني عدوه الذي أراد قتله هنا. فوق الأرض السورية، ذهبت «الهويات» في مهمة إفناء متبادل، على أمل بأن يعود المحاربون، فلا يجدون في الديار… إلاّ أشباههم، لكن عندما يعود الأشباه من تمريناتهم القاتلة، لن يجدوا «اللبنانية»، وسيكون أشباه اللبنانيين، في مواجهة مفتوحة مع الذين شُبّه لهم، من الأغيار!