هذه التساؤلات يطرحها كثير من المحللين الاستراتيجيين المتخصصين بالنزاع العربي – الإسرائيلي، خصوصاً أنّ واشنطن كانت حذّرت نتنياهو من مغبّة شنّه أيّ حرب برّية ضد قطاع غزة. ويشير هؤلاء المحللون الى انّ نتنياهو قد دخل حربَه ضد غزة تماماً مثلما فعلَ شيمون بيريز عام 1996 في عملية «عناقيد الغضب» ضدّ لبنان، وكذلك فعلها ايهود اولمرت في حربه الشهيرة عام 2006 ضد المقاومة في لبنان.
ويُجمع المحللون على انّ كلّ هؤلاء خاضوا حروبَهم عشية انتخابات الكنيست علّهم يحقّقون انتصارات في الميدان يترجمونها أصواتاً في صناديق الاقتراع، وهو أمر يعتقد المحللون انّ نتنياهو لجأ اليه في غزة محاولاً المزايدة على منافسه المتطرّف ليبرمان الذي استقال من الحكومة وسعى الى إقناع كتل أخرى بالاستقالة لإسقاطه.
وقد اختلف كثيرون في تفسير التحذير الاميركي، حيث اعتقدَ بعضهم أنّ وراءَه انتقاماً تنفّذه إدارة أوباما ضد نتنياهو الذي حاول إذلال الرئيس الاميركي مرّات عدة، وأحبَط مهمة وزير خارجيته جون كيري الذي اضطرّ مرّة الى التلويح بخطر المقاطعة العالمية لإسرائيل، في حال استمرّت متعنّتةً في المفاوضات.
ويعتقد آخرون أنّ التحذير الاميركي جاء ليوفّر مخرجاً لنتنياهو الذي هدّد بشنّ حرب برّية على غزة، ولكنّه كان يدرك وجنرالاته الكبار أنّ كلفتها كبيرة جدّاً وأنّها غير مضمونة النتائج، خصوصاً مع انكشاف الاستعدادات العسكرية والتكنولوجية الكبيرة التي أنجزتها المقاومة خلال سنوات التهدئة.
وأيّاً كانت التفسيرات لهذا التحذير الاميركي، فإنّها تكشف عمقَ المأزق الذي تعيشه الحكومة الاسرائيلية خصوصاً، والدولة العبرية عموماً، فللمرّة الاولى تواجه حكومة تل ابيب انتفاضةً شعبية في الضفّة الغربية والقدس والأراضي المحتلة عام 1948، كذلك تواجه حرباً في مواجهة قطاع غزّة، وهي حرب مفتوحة على احتمالات كثيرة وعلى جبهات عدة.
ويُجمع المحللون الاستراتيجيون، على أنّ إسرائيل تمرّ في أخطر لحظات تاريخها المعاصر. فقد باتت كالعالق في مصعد كهربائي انقطعَ عنه التيار فجأةً، فلا هو قادر على إكمال رحلة الصعود، ولا هو قادر على الهبوط في سلام الى الطبقة الارضية.
ويرى هؤلاء في المأزق الإسرائيلي فرَصاً كبيرة يمكن الفلسطينيين والعرب الاستفادة منها إذا وحّدوا صفوفَهم وتجاوزا انقساماتهم وصمّموا على انتزاع تنازلات كبرى لا يقدّمها الإسرائيليون عادةً إلّا تحت ضغط المواجهة وتكاليفها الباهظة. وهذا المأزق الاسرائيلي، حسب المحللين أنفسهم، هو تتويج لمأزق تاريخي حَكم سلوك هذا الكيان الذي منذ تأسيسه يرفض تقديم تنازلات كبرى من أجل السلام، وفي الوقت نفسه عاجز عن الاستمرار في خوض الحروب، خصوصاً بعد أن انتقلت المواجهة من الجيوش الى الشعوب، ومن الانظمة الى المقاومة.
فهل يتمكّن الفلسطينيون في أيّ تهدئة مطروحة من الخروج بإنجازات مهمّة تضعهم على طريق فرضِ تنازلات كبرى على إسرائيل، كرفعِ الحصار نهائياً عن قطاع غزة والإفراج عن آلاف الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين ووقفِ عمليات الاستيطان التي أدانتها قرارات دولية عدّة، وصولاً إلى انسحابٍ من الضفّة والقدس، على غرار الانسحاب من غزّة التي تمنّى رئيس وزراء إسرائيل الأسبق إسحق رابين يوماً أن يفيق ذات صباح فيجدها وقد ابتلعها البحر، فإذا بها تصبح قاعدةً مدجّجة بالسلاح من قلاع المقاومة الفلسطينية.
ويرى هؤلاء المحللون أنّ هناك تشابهاً كبيراً بين تمّوز الفلسطيني في غزّة حاليّاً وتمّوز اللبناني عام 2006 حتى في أدقّ التفاصيل وفي المفاجآت التي أخرجَتها المقاومة من قلب الأرض في غزّة وجنوب لبنان، ومنها وصول الصواريخ إلى ما بعد بعد تل أبيب وإجبار ملايين الإسرائيليين على النزول الى الملاجئ، فيما شبح الطائرات بلا طيّار والمدجّج بالمتفجرات بات يخيّم على كلّ مدينة إسرائيلية، ناهيك عن الحرب الإلكترونية التي مكّنَت جيش المقاومة الإلكتروني من اختراق القناة التلفزيونية الإسرائيلية العاشرة وتوجيه تحذيرات للإسرائيليين عبرها.
ويتخيّل المحللون أنفسُهم مشهداً يقول فيه أوباما لنتنياهو: «ألم نَقُل لك؟ فيما يقول نتنياهو لخصمِه ليبرمان:»ألم أقل لك؟» في محاولةٍ من كلّ طرف لتحميل غيره المسؤولية عن هذا المأزق المتفاقم.
ويشير هؤلاء المحللون إلى أنّ عمقَ المأزق الإسرائيلي يتجلّى في هذا الإرباك الذي يواجهه صاحب القرار في تل ابيب، في مواجهته لاحتمالات حرب تنفتح عليه من الجبهة الشمالية في لبنان، أو الجبهة الشمالية ـ الشرقية في الجولان، ناهيك عن تداعيات الجرائم الاسرائيلية في غزّة على السياسة المصرية نفسها التي تحاول اليوم لعبَ دور الوسيط، ولكنّها لا تستطيع الاستمرار طويلاً فيه إذا لم يوقف الإسرائيليون عدوانهم.
فغزّةُ جزءٌ من الأمن القومي المصري، وإذا فتح المصريون اليوم معبر رفح جزئياً، فهم مضطرّون الى فتحه نهائياً مع استمرار الإجرام الاسرائيلي، وإذا باتوا اليوم يسمحون بدخول مساعدات طبّية وإنسانية الى قطاع غزّة المحاصر، فهم سيضطرّون الى فتح حدودهم امام كلّ أشكال العون لهذا القطاع، بما فيها غضّ النظر عن تدفّق الأسلحة الى المقاومين فيه.
وإذا كان الإسرائيليون في عدوانهم قد راهنوا على الأزمة بين القيادة المصرية وحركة «حماس» على خلفية علاقة الأخيرة بالتنظيم الدولي لـ»الإخوان المسلمين»، فإنّ للمصريين باعاً طويلاً في تنفيذ سياساتهم بألف وسيلة ووسيلة، وعبر تنظيمات أخرى تقاتل في غزّة إلى جانب «حماس». وقد شكّل المقاومون في غزّة على اختلاف تنظيماتهم مفاجأةً أخرى لإسرائيل غير المفاجآت العسكرية والتكنولوجية والالكترونية، حين التحموا بعضُهم مع بعض في مواجهة العدوّ، وحين نجحوا في تأليف حكومة وفاق وطنيّ شكّلَت غطاءً سياسياً وديبلوماسياً كبيراً لهم.
وحسب المحللين أنفسِهم فإنّ إسرائيل تُواجه نوعين من الفلسطينيين، أحدهما يحمل خيار المقاومة، والآخر يمدّ يدَه للمفاوضات قائلاً للحكومة الاسرائيلية: «إذا لم تُقدِمي على حلّ سياسي وفق القرارات الدولية فما عليك إلّا أن تواجهي مقاومةً انتقلت بالكفاح الفلسطيني من رمي الحجارة، كما كانت الحال في انتفاضة 1987 في شوارع المدن الفلسطينية، إلى رمي الصواريخ في عمق المدن والمطارات والمواقع العسكرية الاسرائيلية»، وهذا ما عبّر عنه الرئيس الفلسطيني محمود عباس في حديث تلفزيوني أخيراً، عندما قال للمسؤولين الإسرائيليين: «لقد واجهَتكم الحجارة فلم تفهموا الرسالة، وواجهكم الانتحاريّون في قلب مُدنكم فلم تفهموا الرسالة، وواجهَتكم الصواريخ اليوم، فإذا لم تفهموا هذه الرسالة الأخيرة فستواجهون في الغد ما هو أشد وأدهى».
ويبدو أنّ الرهان الاسرائيلي على الانقسام الفلسطيني والاحتراب العربي، رغمّ كلّ آثاره الدامية، لم يعد يكفي الحاكم في تل أبيب الذي عليه أن يختار بين سلام يعطي الفلسطينيين حقوقَهم، وبين نزاع مديدٍ يهدّد وجود الدولة العبرية نفسها التي تنبَّأَ يوماً مؤسس حركة «حماس» الشيخ أحمد ياسين بزوالها، حين حدّد له موعداً هو عام 2027 مستنداً إلى آية قرآنية توحي بأنّ عمر الدول يتشكّل من مرحلتين: 40 عاماً من الصعود و40 عاماً من الهبوط والانهيار، معتبراً أنّ السنوات الفاصلة بين قيام دولة إسرائيل عام 1948 وبين الانتفاضة الأولى تشكّل مرحلة الصعود، فيما سنوات ما بعد 1987 هي سنوات مرحلة الهبوط وصولاً إلى الانهيار.