لم تكن منطقتنا بحاجة الى أعمال التهجير الحاصلة في منطقة الموصل ضد المسيحيين والاكراد هناك، بأوامر من «الخليفة ابراهيم» واتباعه، لندرك مدى الانهيار الذي بلغته العلاقات بين الطوائف والمذاهب والاعراق في هذه المنطقة البائسة والمنكوبة.
ما تقوم به «داعش» في ما تسمّيه «ولاية نينوى» يأخذ العلاقات المأزومة بين مكونات دول المنطقة العربية الى حدّها الاقصى، أي الى حدّ قطع الرؤوس وفرض الجزية والتهجير واستباحة الكنائس ودور العبادة. فما يرتكبه «داعش» لا يصحّ وصفه الا بالوحشية وامتهان حقوق الناس وكراماتهم وحرية معتقداتهم، لكنه ليس غريباً عن ثقافة عدم التسامح واحتقار حقوق الآخر، لمجرد أنه ينتمي الى الاقلية او لأنه مختلف دينياً، او لأن فرص الحماية التي يستطيع توفيرها لنفسه ولعائلته باتت معدومة. هذه ثقافة تنتمي في الدول الاخرى الاكثر تصالحاً مع العصر الى زمن قديم، يعود الى اكثر من خمسة قرون الى الوراء، لكنها لا تزال هي الثقافة السائدة والمقبولة في الكثير من دولنا ومجتمعاتنا. وقد شهدنا مع الاسف الكثير من السلوكيات التي تعبّر عن هذه الثقافة، في اكثر من بلد في السنوات الماضية.
لخّص فادي، ابن الموصل الذي رفض ترك مدينته على رغم تهديد «داعش» له بالقتل، ما يشعر به كثيرون، عندما قال: «نحن ميتون اساساً انسانياً. ولم يبقَ لنا سوى هذه الروح. فاذا ارادوا ان يقطعوا هذه الروح، فانا مستعد لذلك، لكنني لن اغادر مدينتي التي ولدت وتربيت فيها».
لم تكن هذه دائماً هي الحال في المنطقة العربية، ولا كانت هذه حال الاقليات فيها. المسيحيون في الموصل كانوا يتمتعون بوضعية محترمة في ظل الدولة العباسية، التي يزعم ابو بكر البغدادي اليوم أنه يسعى الى احيائها. كان رئيس الكنيسة النسطورية حتى سقوط الدولة العباسية من أهم رجال الدولة والبلاط. وكانت المدارس واماكن العبادة في الموصل ونصيبين وماردين مراكز علمية، فضلاً عن طابعها الديني، كما لعبت دوراً ادارياً وتنظيمياً مهماً في تسهيل شؤون الحكم في كل من دمشق وبغداد. وهو ما يدعو الى التفكير في اسباب هذا الانهيار المريع الذي ندفع اكلافه جميعاً اليوم، من حضارتنا وتراثنا المشترك، ومن السمعة السيئة التي باتت هي السمعة السائدة عن «قبائلنا» بين سائر اهل الارض.
ادانات كثيرة صدرت ضد التصرفات المشينة التي مارسها تنظيم «داعش» ولا يزال بحق الاقليات الواقعة تحت «ولايته»، مثل ارغام الناس على ترك بيوتهم ومقتنياتهم وجنى عمرهم والفرار بأرواحهم «وان أبوا ذلك فليس لهم الا السيف». منظمة التعاون الاسلامي وصفت الاضطهاد الذي يتعرض له المسيحيون في الموصل بأنه «جريمة لا تحتمل». وقال الامين العام للمنظمة اياد مدني ان «الاقتلاع القسري» لهؤلاء من بيوتهم وأرزاقهم يؤكد «ان ممارسات ما يسمّى بالدولة الاسلامية لا علاقة لها بالاسلام ومبادئه التي تدعو الى التعايش والتسامح».
لكن هذه الادانات، على اهميتها، ظلت عاجزة عن توفير الحماية لابناء الموصل. فالجهة الوحيدة المسؤولة عن ذلك والتي كان يفترض أن توفر هذه الحماية هي الحكومة العراقية التي اثبتت، بسلوكها الطائفي وبتخليها عن واجباتها عندما أخلت قواتها المناطق التي اقتحمها متطرفو «داعش» في ما بعد، أن ما يشغلها هو النفوذ الفئوي والطائفي الذي يغلب عندها على المشروع الوطني. ولا سبيل لاستعادة شيء من الكرامة ومن حقوق المواطنة الى ابناء الموصل، على اختلاف انتماءاتهم، ما يسمح ربما بإعادتهم الى ارضهم، إلا بقيام حكومة في بغداد تراعي المصلحة الوطنية وتقطع الطريق على أي سلوك طائفي، من أي جهة أتى.