IMLebanon

ثمن الاعتداء على مسيحيي الشرق

 

يعاني العالم الاسلامي من مرض يحتاج الى توصيف ومن ثم الى معالجة. من ظواهر هذا المرض: –

في أندونيسيا أقرت الحكومة الاقليمية في ولاية اتشيه (التي ضربها التسونامي قبل سنوات) فرض الشريعة الاسلامية على المسيحيين من ابناء الولاية. لقد جعلت حكومة الولاية من الشريعة قانون عقوبات وتجاهلت كل مقاصدها الاجتماعية الأخرى. وأخضعت المسيحيين الى قانون مستمد من شريعة غير شريعتهم. وفي القرآن الكريم يدعو الله المسيحيين ليحكموا بما أنزل لهم في الانجيل.. وليس في القرآن!!

وفي ماليزيا أصدرت المحكمة العليا حكماً ينص على منع المسيحيين من استعمال كلمة «الله»، بحجة ان هذه الكلمة خاصة بالمسلمين. ويعيد هذا الحكم الى الأذهان قراراً معاكساً فرضه الأوروبيون على المسلمين بمنعهم من استعمال كلمة الإله (God) بحجة ان هذه الكلمة خاصة بالمسيحيين. ولكن ذلك حدث في عصر الظلمات من القرون الوسطى !!.

وفي الباكستان أوقفت حكومة ولاية لاهور تدريس الثقافة المسيحية (مع الاسلام طبعاً) بحجة ان المدرسين المسيحيين يستغلون الفرصة للتبشير بدينهم. ولقد اغتال متشددون وزيراً في الحكومة الباكستانية لا لذنب اقترفه، بل لأنه كان مسيحياً.

وفي أفغانستان، حدث ولا حرج.. فقد نسف تمثال بوذا المحفور في سفح جبل منذ أكثر من ألفي عام. ورغم ان عمر الاسلام في أفغانستان يزيد على الالف عام، فلم تمتد يد السوء اليه حتى قيام حكم طالبان. ولا يتوقف الامر عند البوذية التي لم يبق من أتباعها سوى النذر اليسير في أفغانستان. فقد اغتيل عدد من العاملين الاجتماعيين بحجة انهم مسيحيون ويبشرون بدينهم. علماً بأنه لا يوجد حتى الآن كنيسة واحدة في كل أفغانستان.

ولو تمكنت حركة «بوكو حرام» لما أبقت على كنيسة واحدة في نيجيريا.. بل لما أبقت على مدرسة واحدة . ذلك ان هذه الحركة تحرّم التعليم .. وهي تحرّمه باسم الاسلام ، وكأن رسول الله محمد عليه السلام ليس هو صاحب القول المأثور «اطلبوا العلم ولو في الصين»!.

يتفشى هذا المرض في دول العالم العربي شرقاً وغرباً. فقد حاول السودان فرض الشريعة (كقانون عقوبات أيضاً) على المسلمين والمسيحيين معاً . ادت تلك المحاولة الى شق صف الوحدة الوطنية في بلد كان يبحث جاهداً عن عامل يجمع بين قومياته واثنياته وأديانه المتعددة. وانتهت العملية بانفصال جنوب السودان عن شماله على خلفية دينية عنصرية. وهو الانفصال الذي لم يؤد لا الى تطبيق الشريعة في الشمال، ولا الى توفير الامن للجنوب !! وبذلك خسر السودان وحدته من دون ان يكسب «شرف» السبق في فرض الشريعة.

ولعل أسوأ مظهر من مظاهر «تطبيق الشريعة» يتجلى في كيفية التعامل مع قضية السيدة السودانية مريم ابراهيم اسحق.

فالسيدة مولودة من أم مسيحية (واب مسلم) الا انها عاشت في كنف أمها وتربّت في حضن مسيحيتها. وبعد أن تزوجت من رجل مسيحي اعتبرتها السلطات السودانية مرتدة عن الاسلام، وزانية؟! ولو لم تكن حاملاً لقضت برجمها حتى الموت. فأي شريعة هذه التي يساء توصيفها واستخدامها الى هذا الحد ؟ .. كيف تكون السيدة مرتدة وهي عاشت كل حياتها مسيحية؟.. اين مبدأ: «لا إكراه في الدين»؟ وكيف تكون زانية وزوجها معها؟ وكيف تعاقب بالسجن وهي حامل.. حتى أنها وضعت مولودها في السجن؟ اي شريعة توجب هذه العقوبات اللانسانية؟ بل أي صورة ترسمها هذه العقوبات عن الشريعة الاسلامية؟ لقد تحولت معاناة هذه السيدة الى مادة دسمة لتشويه الشريعة الاسلامية والإمعان في الاساءة اليها، فهل تعرض أي مسؤول سوداني للمساءلة حول هذا السلوك؟.

لم يتعرض الرئيس السوداني الى المساءلة الوطنية او القومية او الاسلامية حول مسؤوليته في انشطار الدولة . ولم ترتفع علامة استفهام واحدة حول معنى انقسام السودان على مستقبل العلاقات العربية الافريقية ، خاصة وان الانقسام وقع على خلفية دينية وعنصرية. وبالتالي، فاذا كان انقسام أو تقسيم دولة عربية كبيرة يمر بمثل هذه السهولة، وحتى بمثل هذه اللامبالاة، فماذا يمنع المضي قدماً في برنامج تقسيم المقسم في العالم العربي وتجزئة المجزّأ ؟

وهكذا انتشر المرض تحت مظلة «الربيع العربي» ..

في مصر صاحبة شعار «الدين لله والوطن للجميع» جرى إحراق عدد من الكنائس من صعيد مصر حتى الاسكندرية. فمن ارتكب تلك الجرائم؟ ولماذا؟ هل هو الصراع بين سلطة حسني مبارك والثورة؟ أم انه الصراع بين الاخوان المسلمين والاخوان الوطنيين؟ ام انه يد السوء التي تريد ان تضرب هذا بذاك ؟ هل عرف الجناة ؟ هل حوكموا؟

لا جواب .. واللاجواب كان العامل المشجع لتواصل جرائم الاعتداء على الكنائس وعلى رموزها الدينية في سورية ثم في العراق على نحو لا سابق له . فمن اين جاء هذا المرض الخبيث وكيف تغلغل الى قلب العالم العربي ؟.

لقد كان من مظاهر هذا المرض، اختطاف رجال الدين من مطارنة وراهبات كما حدث في سورية. ولما لم يظهر رد فعل رادع وكابح للمرض، استسهلت جراثيمه الانتشار في العراق. فكانت العمليات الداعشية المشينة بإخراج المسيحيين من بيوتهم والاستيلاء على ما فيها، واحتلال كنائسهم وانتهاك مقدساتهم.. واسوأ من ذلك كان قرار تخييرهم بين اعتناق الاسلام الداعشي، أو الجزية.. أو المغادرة .. كل ذلك باسم الاسلام !!

لا شك في ان هذه المظاهر المرضية مؤلمة وموجعة. ولكن ما هو اشد ألماً ووجعاً أن لا ترتفع عالياً الأصوات الاسلامية لتسفيه هذه الاجراءات المتوحشة على خلفية دينية ووطنية . كانت هناك أصوات خافتة وخجولة . وكأن اصحابها لم يتعلموا شيئاً من تجربة الصوت الخافت في السودان !!

لقد أدرك المسلمون في هذا الشرق متأخرين حجم الخسارة التي لحقت بمجتمعاتهم عندما نجحت اسرائيل في استدراجهم الى استعداء اليهود العرب . فخسروا بهجرتهم مكوناً تاريخياً من مكونات مجتمعاتهم . وأخشى أن يدرك المسلمون متأخرين أيضاً حجم الخسارة التي سوف تلحق بهم اذا استمروا صامتين ومكتوفي الأيدي أمام الجرائم التي يتعرض لها مسيحيو الشرق والتي تحملهم على الهجرة من أوطانهم العربية . ذلك ان هذه الهجرة القسرية لا تحرم المجتمعات العربية من ثروة انسانية ثقافية وعلمية واقتصادية ووطنية كبرى، ولكنها تجرد الاسلام من صورته الحقيقية، دين سماحة يؤمن برسالات الله جميعاً (المسيحية واليهودية) وتقدمه الى العالم ديناً يرفض الآخر المختلف ويضطهده ويعتدي على مقدساته وينتهك حرماته.

من هنا فان الاعتداء على مسيحيي العراق، وقبلهم على مسيحيي سورية، هو اعتداء على الاسلام، ليس فقط لأن جرائم هذه الاعتداءات ترتكب باسمه، ولكن فوق ذلك، لأن المسلمين في العالم هم الذين سيدفعون ثمن هذه الصورة المشوّهة عن دينهم.

ولا شك في أن مما يزيد من بشاعة الصورة المشوهة عن الاسلام، التحريض العلني على الفتنة المذهبية بين السنة والشيعة. فقد أزهقت هذه الفتنة أرواح ألوف الضحايا في العراق وحده، وقبله في الباكستان، ووصلت شراراتها الملتهبة الى سورية.. وحتى الى اليمن والبحرين وشرق السعودية. ورغم ما تحمله من مخاطر حقيقية، فان المساعي المبذولة لمكافحتها تكاد لا تذكر.

تقول هذه الفتنة للعالم ان الاسلام لا يرفض التعايش مع غيره فقط، ولكنه لا يقبل التعايش حتى مع نفسه !!.

في ضوء هذا الواقع المأسوي والخطير كيف نفهم رد الفعل الاسلامي المتعثر والهزيل؟ اين جامعة الدولة العربية ؟ اين منظمة التعاون الاسلامي؟ اين رابطات ومؤسسات علماء الدين المسلمين المنتشرة في طول العالم الاسلامي وعرضه؟ ماذا اصابها حتى تلوذ بصمت القبور ازاء ما يجري؟ أي مرض حلّ بها فعقد لسانها وكتم أنفاسها وكأنها لا ترى ولا تسمع؟

مؤلم جداً ما يحدث في العالم الاسلامي من أندونيسيا حتى المغرب. ومؤلم أكثر السكوت عما يجري وكأنه أمر يحدث في كوكب آخر.