ليس هيّناً ما تفعله إيران هذه الأيام.. بل ذلك ليس مسبوقاً منذ تفجّر ثورتها قبل أكثر من ثلاثة عقود: ما يحصل يرقى الى أن يكون «ثورة» جديدة، أو بالأحرى، حركة تصحيحية لمسار أوصلها الى الحائط، ولم تترك في طريقها الى ذلك الحائط، زجاجاً واحداً قائماً في مكانه وكادره! بحيث أن النتيجة الوحيدة «البنّاءة» المرئية مبدئياً (حتى الآن؟!) تفيد بأن «ثورة الخط الثالث» البعيد عن الشرق والغرب(!)، عادت القهقرى الى الخط المستقيم، أو الطبيعي، أو الواقعي القائل بأن حقائق الدنيا أقوى من أحلام وأوهام نسفها، وأنّ الجغرافيا السياسية لا تتغيّر بالإنشاء اللغوي، ولا بالإرهاب!
تمتد مروحة الحركة الديبلوماسية الإيرانية على جغرافية سياسية واسعة النطاق: تدخل في مفاوضات عميقة مع «الشيطان الأكبر» وأتباعه من «الشياطين الصغار» في شأن برنامجها النووي، وتدخل في موازاة ذلك في حركة جدل ونقاش مع بعض جوارها مثل مصر وتركيا، وترسل إشارات متفرقة الى احتمالات مفتوحة على الإيجابيات في شأن العلاقات مع السعودية وسائر دول الخليج العربي(؟).
وفي الواقع التشخيصي البعيد عن الهوى، فإنها في المحصلة، هي التي تغيّرت وعدّلت وليس الآخرون. وهي التي قطعت ثلاثة أرباع الطريق وانتظرت وصول الآخرين من الربع الأخير! مُقِرَّة ومُعترفة ومُسلِّمة بأن جموحها «المسلّح» النووي مستحيل، وجموحها السياسي الأكبر من حجمها ودورها أكثر استحالة! تفعل ذلك بوضوح من خلال تفاوضها مع الأميركيين والأوروبيين في الموضوع النووي ايّاه أولاً، وفي قبولها ثانياً حصر التفاوض في ذلك الموضوع دون غيره من الملفّات الإقليمية التي عوّلت عليها كثيراً لبناء امبراطوريتها وشعاعها!.. وتفعل ذلك بوضوح أكثر، من خلال إعادة «اكتشافها» مصر وتركيا وتقديمها وجهاً لسياستها يختلف جذرياً عن ذلك الذي سمّم العلاقات سابقاً.
لكن الحاصل هو أن العالم إزاء نسختين من إيران وليس نسخة واحدة! والنسختان توصلان الى الاستنتاج ذاته القائل بأن الحكم فيها لا «يفهم» إلا منطق القوة: قبِلَ التراخي والتراجع والإذعان في الملف النووي تحت وطأة و«قوة» العقوبات الاقتصادية والاستعداد لتطويرها وتخطيها الى ما هو أسوأ! و«أعاد النظر» في موقفه وسياسته من مصر تحت وطأة «وقوة» الأمر الواقع الذي حملته ثورة 30 حزيران 2013 التي أنهت الدفرسوار المتمثل في حكم «الإخوان المسلمين». وأقرّ تالياً بأن «قوة» المصالح العليا المتبادلة مع تركيا أقوى من الخلاف الجذري معها في شأن الموضوع السوري.
في المقابل، دخل الحكم الإيراني، بقضّه وقضيضه في الموضوع السوري وحاول ويحاول فرض إرادته هناك بالقوة وحدها، ملغياً كل اعتبار آخر من حساباته، أخلاقيًّا كان أو إنسانيًّا أو دينيًّا أو تاريخيًّا.. الخ.
في هذه اللعبة المزدوجة لا يهمّ الآخرين إلا النتيجة الأخيرة. وهذه على ما يبدو تُبنى على وقع ذلك التغيير الاستراتيجي الحاصل والذي سيعني حكماً (ومثلاً!) ان القوة المستخدمة في سوريا، على جبروتها وعنفها وضراوتها وصلافتها لن تكون موازية لـ«قوّة» الحقائق السورية التاريخية والديموغرافية! مهما بدا العكس راهناً: السوريون في «اغلبيتهم» رفضوا سلطة الأسد وأسقطوها من حساباتهم وذلك سيتم آجلاً أو عاجلاً.. وإيران سترضخ لذلك!
التفاصيل كثيرة، كثرة الملفات التي حشرت إيران نفسها فيها، لكن «التحليل الأخير» يفيد أن ازدواجية الأداء الراهنة، لا تلغي حقيقة واحدة وهي أن هناك «ثورة جديدة» مختلفة عن تلك التي بدأت في العام 1978!