لا شيء يتقدّم الآن على أولوية البحث في إدارة التنوّع على مساحة «الشرق الأوسط». نأسف أن نسمّيه كذلك لأنه لم يعُد في هوية عربية ولا هوية إسلامية. كنا نسمّيه العالم العربي برغم ما فيه من تنوع قومي وإثني وديني ولغوي، وكانت «العروبة» هوية ثقافية وحضارية جامعة ومشروعاً قيد الإنجاز في دولة اتحادية. لكن الإيغال في تجاهل وإنكار التنوع أدى إلى انفجار هذه المشكلات دفعة واحدة. ما نسمّيه الآن «مسألة أقليات» هو في الحقيقة مسألة الأكثريات المضطهدة في الأنظمة الاستبدادية لأنها حرمت حرية العيش بكرامة ووفق حقوق متساوية، وحرمت من ممارسة خصوصياتها والتعبير عن نفسها في الكثير من أشكال التعبير. اغتالت الأنظمة الحرية في المجتمع فحاصرت كل تنوّع غريب عن عصبية تكوينها وإيديولوجيتها وهويتها القومية أو الدينية أو الطائفية.
هناك مشكلة تاريخية قديمة جداً في الاجتماع السياسي حيث التعددية الأغنى في منطقتنا. وهناك تاريخ من المصاعب الكبيرة والمحطات الدموية التي لا يفيد استرجاعها. لكن ذلك كله لم يساعدنا على إيجاد دول وأنظمة في أولوياتها وحدة شعوبها انطلاقاً من مبدأ المواطنة. أمعنّا تشويهاً في مشروع الدولة حتى صارت تنسب لعوائل وسلالات وأفراد وجماعات ومذاهب. ونذهب راهناً في ما هو أشنع في تصنيف الرعايا وفي جعل الجماعات موضع حماية أجنبية كانت أم داخلية، وهذا هو أسوأ أشكال «الذّمّية السياسية» الذي يتطوّع لترويجه البعض، ربما بحسن نية، بحثاً عن حلول سهلة لأزمة مجتمعات عميقة وليس لأزمة سياسية عابرة.
فإذا كانت المسألة في تصادم الهويات وبين قوى لها هويات واضحة، كما تظهّرت صورة مجتمعاتنا اليوم، فليس لأحد أن يخدم أحداً إلا بالاعتراف له بهويته المستقلة وبتفكيره لأننا لن نجد ميزاناً يتوافق عليه الجميع لتصنيف البشر بين الجنة والنار. وإذا كانت المسألة هي تصادم سياسي فالأفق الوحيد المتاح هو قبول معايير السياسة وأحكامها ومفاهيمها، حيث أدوات السلم هي الأولى قبل أدوات الحرب.
فالإسلام المتفجّر و«العروبة البائدة فكراً وقوى» والشعوب التي لا نجد لها اسماً جامعاً إلا «شعوب الشرق الأوسط» والجماعات المتناحرة على رموز تراثها وثقافتها وذاك الماضي المشوّش والمشوّه والعكر من تاريخها، هي مشكلاتنا نحن لا مشكلات أي غريب. ماذا فعلنا بالإسلام في مراكز دعوته وفقهه وفتاويه وعلمائه وكيف قدّمناه للناشئة والجامعات وسلوكيات البشر؟ وماذا فعلنا بالعروبة وهي تضيق على أجسام أنظمة مسحت فيها كل تخاذلها واعتصرت كل نكهة لها. وماذا فعلنا بالغنى والتنوع والتعدد الذي ازدهرت به بعض مجتمعاتنا حيناً فحوّلناه لوحة تشكيلية رائعة ثم جئنا نسترد ألواننا منها. مئة سنة ولم نحل مسألة الكرد والمسيحيين ولا الأمازيغ والأقباط والنوبيين والطوارق والبربر ولا علاقة الدولة بالجامع ولا سلطة الدين على المجتمع ولا علاقة المذهب الآخر ولا بين الحاكم والمحكوم، ونأتي اليوم لنضع كل هذه التحديات مرة أخرى إما على أكتاف الخارج وإما على سلوك بعضنا تجاه بعض. ويا ليت كل هذه المآسي والكوارث تفتح عقولنا على الأسئلة الفعلية والمسؤوليات وتطرح الهمّ في كيفية معالجتها. أجوبتنا من الجعبة القديمة نفسها ومن الثقافة ذاتها ومن حصريات ووكالات احتكار المعرفة والحقيقة والأرض والسماء.
كل الذين يتقاتلون الآن يذبحون التنوع والتعدد، يسحقون الحرية والكرامة الإنسانية، يهجّرون ويدمّرون وينزلقون إلى حضن الدول الكبرى التي تدير الفوضى العربية والإسلامية. لا أفق من هنا إلى سلم وسلام وأمن واستقرار ولا انتصارات إلا في رصيد صنّاع الأسلحة وتجارها. هذه منطقة قبض الغرب على عنقها بكل أطرافها منذ اختارت أنظمتها أن تقاوم حاجات شعوبها للحرية والتقدم والتغيير.. والتغيير لا يكون بأفكار الماضي وأدواته.
الإرهاب التكفيري بات قوة خطرة في مجتمعاتنا مدمّرة فعلاً لكل آخر. لكن هل لهذه «الشعوب»، التي ستقاوم، حرية أن تتحالف لتقاوم، تنظم وتفكر بحرية، تستخدم كل إمكانياتها لصناعة نمط حياتها وتطورها أم أن عليها مجدداً أن تقف على الطرف الآخر الذي يحتكر الحق في المواجهة وأشكالها ووسائلها فيأخذها إلى «الحرية بالسلاسل»؟