عند بعض سفراء المجموعة الدوليّة لدعم لبنان، كلامٌ آخر. مرحلة الشغور الرئاسي مطلوبة لامتحان معدَن «المتعلّقين» بالنظام والكيان، والنتيجة حتى الآن إنحدار عميق نحو «الكونفيدراليّة المذهبيّة»، وما يحدث كأنّه تصفية عامّة لما تبقَّى من إرثٍ لصيغة 1943، وللمكوّنات الجامعة في اتّفاق الطائف.
المُمعِن في تفاصيل اليوميّات اللبنانيّة، لا يفوته عمق التمزّق في النسيج الاجتماعي. فالتصفية وجردة الحساب تُطاولان مواضيع حسّاسة في تركيبة الدولة والنظام.
– في الإدارة: يدور الكلام راهناً عن أزمة رواتب، فيما الهدف تسجيل مكاسب: المال متوافر، وتسييله يحتاج في نظر فريق إلى قرار يصدر عن مجلس النواب، والمطلوب أن يلتئم المجلس ويُشرّع في ظلّ الفراغ الذي يسكن قصر بعبدا. وفي الكولسات كلام آخر عن عدد الموظفين السُنّة، والشيعة، والمسيحييّن الذين يتقاضون رواتب. وهل من طغيان وهيمنة لفئة على أخرى؟ وإذا كان هذا الخلل قائماً فعلاً، فهناك ما هو أخطر يوازيه، إذ مَن هي الفئات التي تدفع الفواتير والمستحقّات للدولة، ومَن هي التي تتنصَّل، وتستفيد من الخدمات أسوةً بالآخرين، ومِن حسابهم؟
* في الأمن: كان التعاطي مع انتشار قوّة فلسطينيّة في إحدى المخيّمات مادّةً خلافيّة. البعض رحَّب، كون الهدف ضبط الوضع في مخيّم «كلّ من إيدو إلو» والتعاون مع السلطات الأمنيّة لملاحقة المُخِلّين، أو المطلوبين. البعض الآخر رأى في المشهد عودةً إلى الأمن الذاتي، ظاهرة انتشرَت في سبعينات وثمانينات القرن الماضي عندما تحوّل لبنان دشَماً ومتاريس وخطوط تماس. هل ما يجري بداية الطريق لتكريس نوع من كونفيدراليّة خاصة بالمخيّمات؟
مِن جهة أخرى، عاد تيار «المستقبل» في بيانِه الأخير، ليغمزَ من قناة الجيش. في الماضي القريب كان مِلحاحاً في المطالبة بانتشاره في طرابلس، واليوم تغيَّر المزاج. ينتقد بعض التصرّفات، ويطالب بإعادة النظر في بعض الإجراءات، ويتزامن ذلك مع نشاطات «داعشيّة» تعِدُ بتحرير الإسلاميّين من سجن رومية، وسائر السجون الأخرى. ويتزامن على خطّ موازٍ مع «عرضٍ للعضلات» مارسَه ويمارسه «حزب الله» في البقاع الشمالي، حيث تُرسَم مناطق نفوذ جديدة على خلفيات مذهبيّة وطائفيّة تشكّل امتداداً طبيعيّاً لما تعيشه كلّ من سوريا والعراق.
– في التربية: حديث مفتوح عن الجامعة اللبنانية، محورُه تثبيت «الكوتات» الطائفيّة، والمذهبيّة، والفئوية، على حساب الكفاءَة، والمهنيّة الأكاديميّة، والشفافيّة. هناك من يريد تحويل هذا الصرح الوطني العلمي «تابعاً» لهذه الطائفة، أو الحركة، أو المحور. «البكائيّة» الجديدة حول الجامعة ومستقبلها، مفتعلة ومشبوهة. يدور النزاع حول المحاصَصة، وهذه قد تنتهي إلى تسوية، وإنْ حصلَت، فإنّها ستبيح الفساد، وتُعمّق المحسوبيّة، والطائفيّة، والمذهبيّة، وتُحجِّم الروح الأكاديميّة.
– في ملف النزوح: هناك تخبُّط واستثمار مَقيت وخطير في هذا الملف. هناك مَن يسعى إلى استغلال هذا الطارئ الجديد لإحداث تغيير ديموغرافي. هناك من يتعمَّد إقامة تجمّعات ومخيّمات للنازحين على مقربةٍ من البلدات المسيحيّة في كلّ من عكّار والبقاع الشمالي – الشرقي. هناك أموالٌ تُدفَع تحت عنوان الإغاثة، ولكنّها تُنفَق وفق دفتر شروط يأخذ في الإعتبار أمكنةَ التجمّعات، وتوجّهاتها السياسيّة، وهوياتها المذهبيّة. حتى مكافحة الإرهاب أصبحَت وجهة نظر، ولولا «الحاضنة الخارجيّة» لِما يقوم به الجيش والقوى الأمنيّة على هذا الصعيد، لكانت المسألة قد سُيِّسَت، وطُيِّفَت، واحتلّت مكاناً متقدّماً على جبهة التباينات في المواقف ما بين القوى السياسية المختلفة على كلّ شيء تقريباً.
لبنان بلا رئيس، وفترة الاختبار غير واعدة. النظام ينزلق، والمؤسّسات أيضاً، والتغيير الديموغرافي يتعاظم والصيغة تترنَّح. فأيّ لبنان سيولَد من رحِم هذه العاصفة التي تضرب المنطقة؟ الجواب عند الكبار الذين يملكون الخرائط، والقلم الأحمر.