بينه وبين نفسه، الجردة بدأت من مدة. قد يُفصح عن بعض خلاصاتها، لكنه على الأكيد سيحتفظ بالقسم الأكبر منها لنفسه. طبعاً لن يكشف ميشال سليمان عن كل مكنوناته، لا سيما تجربة السنوات الست مع «شركائه». سيكتفي ببعض العناوين ليضمّنها خطاب الوداع، في ليلته الأخيرة في «القصر».
كلما اقتربت ساعة الرئاسة من لحظة الصفر، ترسخت القناعة في عقول ساكني بعبدا أنّ احتمالات التمديد صارت ضرباً من ضروب الخيال. أصلاً، وعلى خلاف كل ما قيل عن هذه المسألة، فإنّ رئيس الجمهورية فقد الأمل بالتمديد منذ مدّة، وهناك من يحمّله مسؤولية ضياع هذه الفرصة التي كان من الممكن أن تطرق بابه، لولا حسابات أخرى دفعته إلى سلوك درب «اللا تمديد».
مَن سمع فخامته يتحدث أمس أمام الديبلوماسيين اللبنانيين لمس بأذنيه أنّ الرجل قطع الأمل من احتمال التمديد. تحرر من قيود الكرسي وصار بإمكانه أن يقول ما حبسه في حلقه طوال ستّ سنوات. في مسألة السلاح، العلاقة مع سوريا، القرارات الدولية، تحييد لبنان، وغيرها من القضايا الخلافية.
كان يعرف الرئيس جيداً أنّ ما «تقترفه» يداه ستحرمه نعمة الرئاسة في نسختها الثانية. ومع ذلك فعلها، على عكس ما اتهم به من سعي لدى دوائر القرار الدولي لتفصيل بزّة التمديد على قياسه. أقله هكذا يرى بعض المقربين منه.
تصرّف الرجل، وفق عارفيه، بواقعية مطلقة. كان وما يزال مقتنعاً أنّ ثمة فريقاً لبنانياً، وتحديداً «8 آذار» شطب فرضية التمديد، بشكل نهائي. ولا داعي بنظره لدخول هذا «البازار» طالما أنّ الباب مقفل أصلاً. ولذا لم يكن بوارد تقديم أيّ تنازل.
ولهذا بدأ سليمان يستعد للانضمام إلى «نادي التقاعد المخملي». العناوين العريضة لخطاب الوداع في ليل الرابع والعشرين من ايار صارت حاضرة، وبعض التفاصيل متروكة لحينه. كان يفضّل الرجل أن يسلّم خلفاً له خلال احتفال فاخر، لكن القدر سيلعب دوره: رئيس تسلّم من الفراغ.. يترك الرئاسة في الفراغ.
في هذه الأثناء، يحضر شريط الولاية في رأس صاحبها، تمرّ أحداثه بطيئة. هنا لا يحاكَم الرئيس، وإنّما هو من يحاكِم افتراضياً كل بيادق طاولة الشطرنج، ملكاً وجنوداً. يراجع الماضي، ليس بنيّة الاستعداد للمستقبل أو الثأر منه، وإنما للتاريخ.
بعد ست سنوات من الجلوس على الكرسي الأرجواني، يستنتج ميشال سليمان أنّ تجربته مع القوى السياسية انتهت إلى خيبة. مفهوم الدولة مفقود عند الجميع، ولو أنّ فئة تتحمّل مسؤولية أكثر من غيرها. فالصفقات السياسية كانت مائدة التوافق بين مكونات السلطة، الأمر الذي أفقد المواقع الدستورية الكثير من قيمتها وعطّل مسار الدولة. لا ينكر الرجل أنّه استهلّ عهده بتوازن إقليمي معيّن، وأنهاه بمعادلة مختلفة كلياً. «اتفاق الدوحة» كان قابلته القانونية، و«السين سين» ولدت ودفنت على مرأى من عينيه، إلى أن ختم كتابه بحكومة تمام سلام «الإقليمية» بامتياز.
أربعة رؤساء حكومات «حكموا» في عهده الذي عرف كل أنواع التركيبات الوزارية، ما يعكس حجم الانقلابات التي شهدتها المنطقة. في سوريا، قطر وحتى السعودية، متغيّرات لم تعفِ التركيبة اللبنانية من ضريبة هذا التحوّل الحاصل خارج الحدود.
فالرئيس اللبناني الذي امتطى حصان المؤسسة العسكرية للوصول الى بعبدا، حاول كثيراً أن يُمسك العصا من الوسط، على طريقة إرساء توازن، ولو غير دقيق، بين محوري الصراع الداخلي، متحصّناً بـ«سور» ثلاثة وزراء عاجزين على الوقوف بوجه المتاريس المتوحشة القائمة.
اكتفى سليمان بالسعي إلى إدارة التوازنات الحادة التي كانت على طاولته التنفيذية من دون أن تنكسر بين يديه. واقتنع بما صنعت يداه: الاستراتيجية الدفاعية، التي ساهم بخطّها بيديه والتي تطلب إعدادها أكثر من عشرة اجتماعات شارك سليمان فيها جميعاً.. و«إعلان بعبدا».
بنظره الوثيقتان صارتا جزءاً أساسياً من القاموس السياسي اللبناني، بمعزل عن رأي بعض القوى السياسية بها. لا يمكن لأي رئيس جديد أن يتخطاهما أو أن يعود إلى ما قبلهما. من دون أن يعني أنّهما غير خاضعتين للتعديل أو التطوير.
في عناوين الجردة، الرئيس سليمان لم يقصّر في واجباته الوطنية، برغم كل الاتهامات التي وجّهت إليه: بينما كانت العواصف تهبّ من كلّ حدب وصوب وتقتلع أهرامات، صمد بلد الفسيفساء الطائفية، فلا انهار اقتصادياً أو مالياً أو حتى أمنياً برغم الخضات التي لفحته. الهبة التي تقدمت بها السعودية للجيش اللبناني، وغير المشروطة، هي إنجاز بنظر أهل القصر. حتى الحوار السياسي بقي حياً يرزق بين قادة المحاور المتخاصمة، ولو بالواسطة حيناً.
يفاخر مَن حوله، أنّه أكثر رؤساء الطائف «ترحالاً»: التقى ثلاث مرات الرئيس الأميركي، والتواصل دائم بينه وبين سيد الأليزيه واستضاف بابا الكنيسة الكاثوليكية في لبنان.
وحين طرق الفراغ باب الحكومة وحوّلها إلى سلطة تصريف أعمال، حرص رئيس الجمهورية، وفق عارفيه، على ملء هذا الفراغ، بالسعي إلى تسيير عجلة الدولة بالممكن والمتاح من وسائل قانونية ودستورية.
حافظ على ما تبقى من المؤسسات التي تمّ تعطيلها إرادياً. بنظر المحيطين به، فإنّ الرجل أعاد بعض الاعتبار المفقود للرئاسة محلياً وخارجياً، حتى لو كلفه الأمر الدفع من رصيده احياناً.
ومع ذلك يسأل هؤلاء: في الظروف التي حكم فيها ميشال سليمان وفي الإمكانات التي سمحت له، ماذا كان بإمكانه أن يقوم به ولم يقدم عليه؟
سيغادر الرئيس الجبيليّ القصر بالذخيرة نفسها التي دخله بها: ما تعلّمه في المدرسة الحربية كمارونيّ مسؤول عن ضباط من مختلف الطوائف، لم يفرّق بينهم يوماً. ومع ذلك، سار على درب مَن سبقوه: دخل رئيساً لكل اللبنانيين، ثم حاول الخروج مارونياً. لكنه بنظر خصومه، سيغادر القصر «لا مع ستي بخير ولا مع سيدي بخير».
لا يخطر في باله اليوم أن ينتقل إلى الحياة الحزبية أو السياسية بالمعنى الضيق. قد يكتفي بالجلوس في منزله لتكريس نفسه كمرجعية (لثلاثة وزراء في الحكومة). هكذا يطمح وهكذا يأمل. لا سيما أنّه يعتقد أنّ مواقفه الأخيرة كانت «شعبية» وتؤسس لحيثية ما. لكن خصومه يختصرون تجربته بمعادلة سلبية: الرجل تصرّف على طريقة المتلقّي وليس المبادر. فجلس يراقب الآخرين يتحركون وهو ينتظر.
لم يجد للرئاسة وظيفة، حتى في أقل القضايا اشتباكاً، الإنمائية على سبيل المثال. وحين قرر أن يستثمر الموقع الأول لتكوين حيثية شعبية أو حتى سياسية، حشر نفسه في زاوية المناكفة مع زعامة ميشال عون. فخرج منها «عارياً» من كل دعم سياسي أو شعبي.. ليكتفي بتحوله إلى حامل لقب، أتاه على طبق من فضة، وتركه على رصيف الفراغ، في انتظار من يبادر كالعادة الى فتح دفتر مذكراته، ليكتب فصلاً جديداً من فصول رئاسة جمهورية لبنان.