كانت الأضواء تتلألأ فوق الملاعق والشوك الفضّية، خلف الباب الخشبيّ في قاعة الاحتفالات في فندق الحبتور. يفوق الرجال النساء أناقة. الفرنسيون انفسهم لم يسمعوا بالعطور الباريسية الفائحة، وتفاجئك بعض الأيادي بنعومتها. الجميع يريد إثبات أن لقب فخامة الرئيس يليق به
ينافس النائب السابق فريد هيكل الخازن منظمي حفل انتخاب ملك جمال اللبنانيين. بدل التاج، سيمنح الفائز كرسي رئاسة الجمهورية. «جمالك أخّاذ» عنوان العهد المقبل. يحل البطريرك بشارة الراعي محل المخرج سيمون أسمر في إخراج الاحتفال، وفرقة «دبيكة القصر أياً كان قاطنه» محل فرقة كركلا، فيما يترأس الرئيس ميشال سليمان لجنة الحكم، ويخفي وزير دفاعه (ورحلات سفره) سمير مقبل كل أعضاء اللجنة خلفه.
أما ضيف الشرف، أو ميريام فارس الحفلة، فتيمور بيك جنبلاط. يحاول الأخير الظهور بمظهر جديّ، لكن لا بد من حرب أهلية جديدة لـ «دعك» البيك الجديد وإعطائه فرصة حقيقية لإثبات جدارته في قيادة طائفته. أما مقدم الحفل فهو روني ألفا. يكشف محرك البحث الالكتروني «غوغل» أن لرئيس الحزب الديمقراطي اللبناني النائب طلال إرسلان مستشاراً سياسياً، هو ألفا نفسه. وألفا شاعر له ديوان استثنائي عنوانه: «حبة نسك». يبرر هذا الحشد الكريم سبب حماسة كثيرين المستجدة للنسك. أما المتنافسون على لقب «الرئيس الأجمل» في تاريخ الجمهورية فكثر: فارس بويز، جوزف طربيه، مروان شربل، أنطوان الريف، وديع الخازن، حارث شهاب، دميانوس قطار، رشيد لبكي وزياد بارود. أول من أمس، أخرج أحد الجهابذة الزميل مرسيل غانم من قداس كسرواني، وسحب الإنجيل من جيبه ليضعه بين يدي غانم طالباً منه أن يقسم باستضافته مرة في برنامج «كلام الناس». أمس، وجد غانم فرصة الإيفاء بقسمه. وها قد غدا الضيف الإعلامي مرشحاً لرئاسة الجمهورية. لا بدّ من فرض رسم مالي ما على لقب «مرشح إلى رئاسة الجمهورية» لمحاصرة هذه الهستيريا الجامحة. «راجع راجع يتعمر لبنان» و«هزي منديلك هزي». لا حاجة هنا إلى راقصة شرقية، الكل يتقن هز الخصر.
حاول الرئيس سليمان، في مطلع عهده، إيجاد وجوه كسروانية جديدة يطل بها، مفترضاً أن المناصب تنفخ الأشخاص، لا الأشخاص من ينفخون المناصب. طلب من صهره وسام بارودي توسيع صالون منزله، وعيّن زياد بارود وزيراً. إلا أنه اقتنع أخيراً بأن المر صنع وزارة الداخلية، وليست «الداخلية» من صنعت المر، كما أن فؤاد شهاب وسليمان فرنجية وكميل شمعون نفخوا رئاسة الجمهورية، لا رئاسة الجمهورية من نفختهم. لذلك، كفّ والبطريرك بشارة الراعي عن الاختباء خلف أصابعهما، واستنجدا بالنائب السابق فريد هيكل الخازن: «أقم يا فريد مذكرة بكركي من المقبرة التي دفنت فيها يوم وُلدت، وهات للبطريرك والرئيس جمهوراً متنوعاً لا يمكن غيرك توفيره لنحتفل بها قبل دفنها مجدداً». اندفع الشيخ الخازني مسروراً بتحميله مشعل الفكر الكنسي: وضع جانباً ثورات الجياع الشعبية التي كان ينشغل في تنظيمها، ليُحضِّر عشاء مدنياً للشبعانين في فندق الحبتور.
لا يكاد البطريرك الماروني ينهي كلمته حتى تسرح الفوضى في القاعة وتمرح حول الرئيس سليمان. يقول الإعلامي سعيد غريب إن الموارنة اختاروا الفوضى حين خيروا بينها وبين النائب السابق مخايّل الضاهر، ولا يزالون مذّاك يتخبطون فيها. كيف يمكن التعامي فعلاً بهذه الطريقة عن تضييع الموارنة 25 عاماً من عمرهم ليعودوا إلى عام 1989: سمير جعجع وميشال عون. أما سبب هذه المشكلة (عون وجعجع): أمين الجميل، فيقدم نفسه كحل. كيف يعقل أن يكون مرشح عام 1982 إلى رئاسة الجمهورية مرشحاً عام 2014 أيضاً؟
في الشكل، تبدو الأمسية مسلية فعلاً، أما المضمون فلا يسلي بتاتاً. حين تنكب البطريركية المارونية عامين كاملين على إعداد مذكرة تعجز عن البقاء على قيد الحياة ثانيتين، فهذا ليس بالأمر المسلي. ليس مضحكاً أن تتعرف على محام أو مهندس صباحاً، ليعلمك ظهراً أنه غدا رئيساً لرابطة ما أو حزباً أو مجلساً او لقاء أو جمعية لا تجتمع فيها سوى تناقضاته. ما من عسكر هنا؛ الكل قادة يديرون الحروب ببذلات رسمية. ما من نائب في كتلة؛ لا تسمع سوى «أنا الكتلة» كيفما التفت. قبل الظهر يعين وزير، بعده يغدو هو المرشح إلى الانتخابات الرئاسية والمشرع والوزير ومسؤول الاتصالات السياسية ودينامو الانتخابات الرئاسية. قبل الظهر يُعيَّن مسؤول حزبي في منطقة أو نقابة أو جامعة، بعده يغدو هو رئيس الحزب ونائبه والوزير. لا حاجة هنا إلى محلل سياسي أو خبير في شأن ما أو أخصائي، الكل يحلل ولديه الخبرة والمعرفة الواسعة. هذا يحصل فعلاً: لا أحد يسمع، الكل يتكلم. في هذه القاعة خفة لا تماثلها خفة في قاعات أخرى، ولو بنسبة خمسة في المئة: بطريرك يعجز عن تحقيق مشروع واحد لتثبيت أبناء وطنه في وطنهم، بات يريد تثبيت الفلسطينيين في أرضهم الآن. بطريرك يعجز عن التمسك بموقفه من قانون الانتخابات النيابية أو وجوب انتخاب أحد الزعماء المسيحيين حصراً لرئاسة الجمهورية، بات يريد إبقاء رئيس الجمهورية في موقعه حتى بعد انتهاء عهده. ورئيس جمهورية مصرّ على التصرف في نهاية عهده كأنه في بدايته.
حين خيّر ميشال عون وسمير جعجع وأمين الجميل بين مخايل الضاهر أو الفوضى، اختاروا الفوضى. حين خيّر الرئيس سعد الحريري بين مخايل الضاهر وهادي حبيش، اختار حبيش. ليس حبيش مرادفاً للفوضى بالضرورة. إلا أن تجاهل ضحكته الصاخبة في القاعة أول من أمس كان صعباً بالفعل. حين خرج الأخير بفتوى استمرار رئيس الجمهورية في تصريف الأعمال في رئاسة الجمهورية ريثما ينتخب رئيس جديد، أنّبه بعض نواب كتلته مستهزئين بخفته الدستورية. وها هم الآن يبحثون عما يثبت نظريته البهلوانية ويدعمها. كان الضاهر مشرّع الجمهورية، غدا حبيش مشرّعها. ليس في الأمر ما يضحك؛ حبيش ليس باسم فغالي. وهذه ليست مسرحية.