كثير من الهدوء يتسلل إلى ذهن وليد جنبلاط في هذه الأيام. لا الشغور في بعبدا يقلقه، ولا السيناريوهات المتخيلة في رؤوس البعض تثير اهتمامه. يفضّل الاستمتاع بنسمات ساعات بعد الظهر في باحة دارته البيروتية برفقة الورقة والقلم.. على متابعة مناوشات المنابر السياسية والتكرار الممل للعروض المسرحية، التي لا تملأ شيئاً من الفراغ.
الاستحقاق دخل مربع ما بعد 25 أيار، وما من جديد تحت سمائه. ترشيحان «رسميان» على مسرح فاقد للنصاب، وآخر «مضمر» في غرفة الإنعاش الحواري بين الرابية وباريس. فيما حال المراوحة هي السائدة. وحدها حكومة تمام سلام «الملوكية» تحاول اختراق الجمود لتستفيد من «كامل دسمها» وتكمل دربها بأمان من دون صواعق التهديد البرتقالي.
في المقابل، يضجّ المشهد الإقليمي بحراك عابر للاصطفافات الحادة من شأنه أن يرسم خريطة جديدة في دوائر الالتهاب الممتدة من العراق إلى سوريا مروراً بلبنان.. بالتوزاي مع المفاوضات الدولية التي أعادت طهران إلى قلب العالم الغربي.
ومع ذلك، لا يتلمّس «البيك الجنبلاطي» أي مؤشرات عملانية للانقلابات السياسية الحاصلة خلف الحدود. بتقديره تقود إيران المفاوضات مع «الشيطان الأكبر» على طريقة حائك السجاد، بنفَس بارد جداً، قد لا تظهر مفاعيله في الأسابيع القليلة المقبلة. كما يطرح تساؤلات عن مصير الغزل عن بعد بين الرياض وطهران، أكثر مما يقدّم إجابات.
وهكذا لا يرى من خلف الحدود إلا قوافل السياح العرب المرجح عودتهم قريباً إلى ربوع المصايف اللبنانية، لإنعاش السياحة المعطّلة منذ سنوات.. فيما عينه على مدينة حمص السورية التي تشهد برأيه تغييراً ديموغرافياً مخيفاً سيبدّل معالمها كلياً، وترتبط أبعاده بالتحالف القائم بين دمشق وبغداد وطهران.
على المستوى المحلي، ما من مادة سياسية تجذب الرجل إلى ملعبها. يكتفي راهناً برصد بورصة الترشيحات.. وبالانتظار. حتى أنّ الراجمات التي أتته من الرابية قصفاً لأصواته الـ16 لا تثير ردّه، ويكتفي بالابتسامة والاستغراب لأنّ «موقع الجنرال وتاريخه أكبر من أن يتناول وليد جنبلاط ويهاجمه».
يراقب الحوار الطائر بين ميشال عون وسعد الحريري ويرتقّب نتائجه، فيما يكتفي هو بالمشاورات التي يجريها مع نادر الحريري من وقت لآخر.. وإن كان في ذلك ما يزعج الراغبين في «إقصاء بيضات القبان» الوسطية، لتركيب أكثريات جديدة. أما فهو فيدير أذنه الطرشاء.
يبقي على ورقة هنري حلو حيّة ترزق. ولا يكترث لاتهامه باستفزاز المسيحيين بهذا الترشيح، على اعتبار أنّ أقطابهم يتبارون في الترويج للحاجة إلى مسيحي قوي في رأس الهرم. لا بل يذهب إلى التاريخ البعيد والقريب، لينبش خطايا المسيحيين الأقوياء ومآثرهم بحق بعضهم البعض وبحق الجمهورية.
لا يستغرب وليد جنبلاط الجمود الحاصل في الملف الرئاسي ربطاً بالترشيحات «المضادة»، ويقرّ بأنّه إذا لم يتسلل الاستحقاق إلى دوائر القرار الدولي، التي لا تعير لبنان اهتماماً كافياً، فقد لا يجد له منفذاً يخرج الفراغ من القصر الرئاسي. إذ إنّ لبننة الاستحقاق كانت الاستثناء في التاريخ اللبناني ولم تكن يوماً القاعدة. وقد لا يشذّ الوضع الراهن.
يعترف بأنّه عادة ما يحاول مع «صديقه» نبيه بري ابتكار مخارج للأزمات الداخلية، ولكن في هذه الجولة لرئيس المجلس تحالفاته التي لا يمكن القفز فوقها بسهولة.
ولهذا ينظر إلى الحكومة بعين الرضى. ويأمل أن لا ينجرّ أبناؤها إلى التعطيل المقصود الذي قد يزيد من مستوى الشلل في البلاد. من دون أن ينسى أن يشيد بأداء ميشال سليمان الذي صار رئيساً سابقاً ويشدّ على يده.
ماذا عن الخطة التي يعدّ لها ميشال عون؟ أي إجراء الانتخابات النيابية ومن بعدها تجري الرئاسة؟
هنا يعتقد الجنرال أنّ بمقدوره أن يغيّر توزان الرعب الذي يحكم حالياً المجلس، فيصير رئيساً من دون «جَميلة» الطبشة الجنبلاطية، سواء جرى إقرار قانون جديد للانتخابات أم أُبقيَ على سيف «الستين».
لكن يبدو أن سيد المختارة لا يجاريه في «أحلامه». يفضّل الرجل السيناريو المعاكس، أي إجراء الانتخابات الرئاسية ومن بعدها النيابية، على أن لا يتمّ تعطيل البرلمان من خلال التطنيش على قانون جديد يمدد فيه المجلس النيابي لنفسه.
عملياً، لا شيء يلوح في الأفق، سوى بعض الأفكار السوداء المخطوطة بأقلام الخائفين من «الأسوأ». حتى أنّ بعض رؤوس «14 آذار» المتوجسة من «حزب الله» وسلاحه، ترسم في مخيلاتها سيناريوهات دراماتيكية ستجعل من الثنائي الشيعي «شريك الثلث» في التركيبة اللبنانية. هي المثالثة الآتية بنظرهم على صهوة الشغور الطويل الأمد.
لا يجاري وليد جنبلاط هذه الحبكات الهوليوودية. تكفيه ضمانات الرئيس بري الذي عارض صراحة المثالثة وقال بالحرف الواحد خلال جلسات الحوار الأخيرة إنّ اتفاق الطائف هو خشبة خلاص الجميع ولا تخلّي عنه مهما حملت الظروف من تطورات.
ومع ذلك فإنّ لرئيس «اللقاء الديموقراطي» وجهة نظر متمايزة. بنظره لا مانع من تجميل «الطائف» وإدخال بعض التعديلات عليه، لا بل هو يراها ضرورة وحاجة للحفاظ على المسيحيين في لبنان وتعزيز موقع رئاسة الجمهورية لتكون حَكَماً بكل ما للكملة من معنى، لا يحمل فقط صفارة الإنذار وإنما أيضاً البطاقتين الصفراء والحمراء.
يعود الرجل إلى ظروف ولادة «وثيقة الوفاق الوطني» حين كان السوري راعياً لتنفيذها، حيث يفترض إعادة «دوزنة» هذا الاتفاق بشكل جديد يحوّل رئيس الجمهورية إلى «دينامو» العلاقات بين بقية المكونات الطائفية وجسر التواصل بين السنة والشيعة، من دون أن يعني ذلك الانقلاب على «الطائف» أو فرض المثالثة على أنقاض المناصفة كما يتخوّف البعض.
وبهذ المعنى، لا بدّ برأيه من إعادة النظر ببعض البنود، لا سيما المتصلة بصلاحيات رئيس الجمهورية. هنا يستعيد جنبلاط خطاب ميشال سليمان في بيت الدين ليضمّه إلى «تطمينات» بري، ويخلص إلى الدعوة لتعديل هذه الصلاحيات، لا سيما في الشق المتعلق بصلاحية التوقيع على القرارات، وحلّ مجلس النواب، وغيرهما…
فهل ستكون نهاية الفراغ الرئاسي بداية انفراج سياسي شامل يُعوَّض فيه على المسيحيين بصلاحيات تضاف إلى الرئاسة عوضاً عن الرئيس القوي؟