يقال إن الرئيس المصري أنور السادات رفض العام 1979 (اتفاق كامب دايفيد) عرضاً من رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن بأن يعود قطاع غزة إلى مصر التي كانت قد تولت «الوصاية» عليه بعد نكبة 1948، وخسرته في حرب 1967.
العام 1993 قبل الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات «غزة وأريحا أولاً» كخطوة أولى نحو اتفاق على دولة فلسطينية مستقلة سيدة بعد خمس سنوات. وبينما استطاع إعطاء قطاع غزة في التسعينيات الأمن والاستقرار، فشل الرئيس الفلسطيني الراحل في إقناع الدول المانحة بالعمل على جعله «هونغ كونغ» المنطقة. كانت المساعدات الإنمائية الدولية عامة، والعربية خاصة، للسلطة الفلسطينية جد ضئيلة، فلم تفلح في تحسين الوضع الاقتصادي للقطاع.
أدرك الرئيس عرفات أن مفتاح استقرار غزة هو التنمية الاقتصادية، فطالب بإقامة منطقة صناعية على الحدود مع إسرائيل تعطي سكان غزة انطلاقة للالتحاق بالاقتصاد العالمي. زرته يوماً في مكتبه في غزة في منتصف تسعينيات القرن الماضي ممثلاً البنك الدولي، وكان سعيداً لأنه اعتقد بأن إسرائيل وافقت معه على شق طريق يصل جنوب الضفة الغربية بغزة، ويمر في «الأراضي الإسرائيلية» من دون إمكان التوقف فيها. كان يحاول أيضاً ويجهد للسماح للسلطة الفلسطينية بإعادة مرفأ إلى غزة يصلها عبر البحر بالعالم، كما كان يُصرّ على ان تسمح إسرائيل لصيادي السمك الفلسطينيين بأن يعملوا في المياه الإقليمية للقطاع فلا يقتصر إبحارهم قرب الشاطئ الفلسطيني حيث الأسماك نادرة. أصر أبو عمار على الإسرائيليين والدول الغربية ان لا تتوقف العمالة الفلسطينية في إسرائيل كلما وقع حادث فردي، حتى وإن كان دافعه سياسياً.
أدرك ياسر عرفات بأن قطاع غزة المحروم من موارد طبيعية في حاجة إلى مساعدات اقتصادية كبيرة، لترسيخ الاستقرار والأمن مع اتفاق أوسلو الذي وُقع في واشنطن في 13 أيلول 1993. أدرك انه إن لم يُعطَ سكان غزة الفرصة لانطلاقة اقتصادية مستدامة، فإن الشغب والثورة سيعودان إلى القطاع.
عندما وُقع اتفاق أوسلو العام 1993 كان يقطن القطاع حوالي تسعمئة ألف نسمة على مساحة تقارب 300 كيلومتر مربع، مقارنة بسكانه اليوم البالغ عددهم مليوناً وثمانمئة ألف نسمة في بلدات وقرى مكتظة بالسكان، بكثافة هي الأعلى في العالم. موارد القطاع المائية الجوفية شحيحة، وبدأت ملوحتها ترتفع بسبب شح الأمطار والاستعمال الكثيف، وبالأخص خلال فترة الاحتلال الإسرائيلي، حيث كانت المستوطنات التي سكنها حوالى عشرة آلاف إسرائيلي من 1967 إلى 2005، تستهلك وقتها أكثر من نصف المياه المستخرجة.
لم تكتفِ إسرائيل، بعد تفكيك مستوطناتها في غزة، بحصار عادي، إنما فرضت عليها حصاراً قاسياً شمل منع تصدير المواد بحراً وبراً واستيرادها، وحصرها بالمرافئ الإسرائيلية، وحرّمت على صيادي السمك الفلسطينيين الإبحار، وضغطت على مصر حسني مبارك لإقفال الممرات بين سيناء المصرية وقطاع غزة، كما منعت استيراد الاسمنت لإعادة تعمير ما تهدمه القوات الإسرائيلية في الحروب المستمرة.
فعلت إسرائيل كل ذلك لحماية أمنها، مبررة قرارها أن الحصار يمنع تهريب السلاح إلى غزة، حتى أنها منعت سفينة سلام تركية من الوصول إلى القطاع، مدّعية أنها تحمل سلاحاً للإرهابيين. لكن إسرائيل لم تنجح في اكتشاف السلاح عندما صادرت السفينة ومَن عليها بعد مقتل حوالى عشرة من ركابها.
أما حصيلة التدابير الإسرائيلية فنجاحها في إفقار غزة، برغم فشلها أمنياً. إذ ان المهربين نجحوا في إيصال السلاح بوفرة إليها، فوقعت الحرب بين الدولة العبرية وغزة في أواخر العامين 2008 و2012، وانتهت كلتاهما بوقف إطلاق النار. كانت الولايات المتحدة، بمساعدة حسني مبارك (2008) ومحمد مرسي (2012) تقوم بجهد للتوصل إلى اتفاق. بقي الحصار بعد كلتا الحربين، كما بقي السلاح يتدفق على غزة الذي ازداد تهريبه خلال فترة التغيير المصري من حكم الإخوان المسلمين إلى حكم المشير عبد الفتاح السيسي، وأصبحت لدى غزة اليوم وفرة من الصواريخ وصل مداها إلى حيفا والقدس وتل ابيب ومحطة التوليد النووي في ديمونا.
قصة الحرب على غزة ليست صنيعة حماس، ولا فتح، ولا الجهاد الإسلامي. إنها حتمية. الحرب الحالية تتوقف بعدما ينفد صبر الإسرائيليين من العيش في الملاجئ. لكن الحرب ستعود لأن وقف إطلاق النار سيُبقي الحصار القاسي على غزة وسكانها، مدعوماً من العالم الغربي وخاصة الولايات المتحدة التي تعتبر «حماس» وغيرها من المنظمات الفلسطينية في غزة إرهابية، ومن ثم تبرّر استمرار الحصار الإسرائيلي وإفقار القطاع.
إن الطريق إلى السلام هو تماماً عكس ذلك. لن يتحقق أمن إسرائيل بإفقار مليوني فلسطيني في قطاع غزة، ولن يتحقق ما دام معدل الدخل القومي للفرد في إسرائيل يزيد عن ثلاثين ألف دولار، بينما الرقم لسكان غزة يقل عن ألف دولار. لا تحتاج غزة إلى حصار، إنما إلى خطة إنقاذ إنمائية تعيدها إلى العالم الذي انفصلت عنه العام 1948.
في غياب ذلك تتجدد الحرب خاصة، ان العرب، كل العرب، مشغولون بمحاربة بعضهم البعض وتقويض سيادتهم وتقسيم دولهم، والحفاظ على عروشهم المهتزة.