يتابع رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان مسيرة التأسيس لدولة سيدة حرة مستقلة، ويستوحي حتى “الرمق” الأخير من ولايته، خطواتها من “إعلان بعبدا” الذي يحمله سلاحاً وحيداً في وجه كل الرافضين لوحدة الدولة وسلاحها الشرعي. الخط الإصلاحي هذا لم يَحِد عنه سليمان منذ اليوم الأول في ولايته الرئاسية، سعى ليجمَعَ لا ليفرّق، هوجِمَ واستُفِزَّ لكنه لم يتأثّر.
باعترافه، شكّل الانقلاب الذي قاده “حزب الله” في 7 أيار على حكومة الرئيس سعد الحريري حدثاً مفصلياً، حتّم الاحتكام الى طاولة الحوار. هنا كل شيء تغيّر وبات على سليمان أن يؤدي دوراً حيادياً ليُضفيَ توازناً بين الأفرقاء السياسيين وبالتالي بين الشعب اللبناني. لا شكّ بأن الفضل يعود له في كثير من المواقف المدافعة عن اللبنانيين القاطنين على الحدود اللبنانية – السورية والمستهدفين يومياً من النظام السوري، في حين لم تُعِر الوزارات المعنية توجيهاته اهتماماً.
وتكاد تكون اللامركزية الإدارية التي أطلقها الرئيس قبل انتهاء ولايته، سلاحاً فعالاً يضعه بين أيدي اللبنانيين، ليحفظ حقّهم ويجنّبهم اللجوء الدائم الى حزب أو سياسي يلبّي لهم خدمات أو حاجات، من واجب الدولة تأمينها. إن دلّ ذلك على شيء، فعلى الثقة التي يضعها سليمان بالشعب اللبناني ليحرّره من الحجّة بالخضوع للسلاح حيناً وللتهديد به واقتياد الشباب للقتال في سوريا حيناً آخر. ولا شكّ بأن الرئيس ينتظر بالمقابل أن يقدّر الشعب تلك الثقة ليساهم بدوره في إرساء توزان ستنعكس آثاره الإيجابية عليه بالدرجة الأولى.
لا “يسوّق” ميشال سليمان لهذه الإصلاحات من خلال اللامركزية من أجل مصالحه الخاصة، فهو سيترك سدّة الرئاسة بعد أقل من شهرين، أما الشعب فباقٍ والسياسة الإصلاحية تقتضي الحفاظ على كل الأهالي في مناطقهم أملا بأن يختار المجلس النيابي رئيساً يكون خير خلف لخير سلف. يريد سليمان أن يسلّم دولة وشعباً غير مرتهنَين لحزب أو لشخص بعيداً عن “النفعية والزبائنية”، وهو يعوّل في ذلك على اللامركزية والإنماء المتوازن كما جاء في الفقرة “ز” في مقدمة الدستور اللبناني.
لدى سليمان إثباتات “مسجّلة” عمّن يريد الدولة والسلاح الشرعي وعمّن يريد أن يهيمن على قرار الدولة، وهو سيورث “إعلان بعبدا” واللامركزية الإدارية للرئيس الجديد، ويُمكن القول إن تشديد الرئيس على هذين المشروعين في نهاية عهده رسالة تعبّر عن حرصه الأبوي على الشعب اللبناني. أما الرئيس “القوي”، فهو بمفهوم سليمان “لبناني، عربي، توافقي إذا أمكن، أو ينتمي الى خط سياسي لبناني مكتمل الولاء للبنان”، وفي ذلك إشارة الى أن المرشّح الرئاسي المدافع عن تورّط شباب لبنان في سوريا، لن يكون قوياً، ولن يكون قوياً الساكت عن تورّطهم هناك.
ويُلمح سليمان في كلامه الى أن الرئيس القوي هو من يسلك قنوات الحوار التي مدّها بنفسه يوم لمس استقواء السلاح على الشعب، وبأن أي رئيس سيقبل أن يُهان الشعب وأن يخضع لسلاح غير شرعي فهو غير قوي. أما عربياً، فشخصية الرئيس سليمان الهادئة والمحببة في الدول العربية والمساعدات الأخيرة التي حصل عليها الجيش اللبناني من المملكة العربية السعودية تعكسان قناعة عربية عن أدائه الوطني الجامع، وعلى هذه الصورة يجب أن يكون الرئيس اللبناني الجديد.
هكذا، يطمح سليمان الى أن يستلم الحكم رئيس قوي يمثل الشعب اللبناني قلباً وقالباً، نَفَساً ومضموناً، فلا بدّ من أن يخلُف الرئيس القوي رئيساً يضاهيه قوة وشجاعة ونضالاً، وهذا ما أراد قوله سليمان. ويشهد التاريخ على العلاقة الوطيدة التي جمعت لبنان بمحيطه العربي في عهد سليمان، فالرئيس احتضن النازحين السوريين على الرغم من تراجع النمو الاقتصادي، والثقة به كانت دافع السعودية لتقديم الهبة للجيش اللبناني، إضافة الى الدعم العربي لسياسته، في حين عزلت الدول العربية والأجنبية الرئاسة في فترة سبقت عهد سليمان، حينما كان النظام السوري يسعى الى استعادة سيطرته على لبنان من خلال أدواته في الداخل بعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري.
لا بدّ أن سليمان يتمنّى لو أن الظروف المحيطة اختلفت في عهده، أو ربما كان يفضّل أن يكون رئيساً في فترة أكثر هدوءاً، إلا أن لبنان كان بحاجة لجرعة من الأمل في عزّ حرب المصالح التي تتنازع محيطه، وقد أعطى سليمان لولايته نكهة من الحرية والديموقراطية والجرأة التي لم تعهدها الرئاسة الأولى منذ عقود. فهل يتحقق أمل سليمان برئيس قوي؟