IMLebanon

حتى يبقى الشغور الرئاسي أولوية

الشغور الرئاسي وعدم وجود رئيس ماروني على رأس الجمهورية أولوية. أما الانتخابات النيابية فتكاد تصبح أولوية مطلقة لدى بعض المسيحيين، كممرّ طبيعي لتغيير النظام الحالي، رغم أنه قد يكون مراً غير آمن

أيّهما ملحّ أكثر: الانتخابات الرئاسية أم الانتخابات النيابية؟ وأيّهما ملحّ أكثر: انتخاب رئيس ماروني للبنان في ظل المتغيرات الاقليمية من العراق الى سوريا، أو الإعداد لانتخابات نيابية على أساس قانون الستين الذي قال عنه العماد ميشال عون يوماً إنه «أكثر القوانين ظلماً»، أو حتى على أساس المشروع الأرثوذكسي الذي يرفضه الرئيس سعد الحريري وأكثرية اللبنانيين.

سؤال بات الجواب عنه ضرورياً، حتى لا يتحول الشغور الرئاسي الحالي فراغاً قاتلاً في حق المسيحيين واللبنانيين.

من الواضح أن الانقسام العمودي بين الاطراف المسيحيين بشأن رؤيتهم للاستحقاق الرئاسي ينسحب أيضاً خلافاً حول تصورهم للاستراتيجية الجديدة التي يريد رئيس تكتل التغيير والاصلاح إشغال لبنان بها في فترة الشغور الرئاسي، برفض التمديد للمجلس النيابي والذهاب نحو انتخابات نيابية.

لم يعد سرّاً أن الحلقة الضيقة المحيطة بعون ترسم، في الآونة الأخيرة، معالم تحوّل جديد في السياسة الداخلية لا تلاقي تأييداً داخل كتلة التغيير والإصلاح، كما يردد أعضاء فيها في مجالسهم. ولم تكن سراً أيضاً ملاحظات عون التقليدية حول اتفاق الطائف ودعوته الى إصلاحه. لكن مشكلة عون المزمنة، بحسب الذي ينتقدون دعوته الحالية الى الانتخابات النيابية، هي في توقيت الطروحات والخطوات التي يقوم بها. من هنا كان السؤال حول أيهما يتقدم على الآخر: الانتخابات الرئاسية أم النيابية؟ ولماذا يجب أن ينصبّ الاهتمام المسيحي، أولاً وآخراً، على انتخاب رئيس للجمهورية، بدلاً من الذهاب في مغامرة قد تؤدي الى النتيجة نفسها التي خلصت اليها مغامرة القانون الارثوذكسي، ورفض عون التمديد للمجلس النيابي قبل أشهر، ورفضه انتخاب العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية قبل ستة أعوام. ليس بسبب عدم جواز الانتخاب وأحقيته، بل بسبب تضافر جهود أكثرية الأطراف المحليين المؤثرين لاتخاذ خطوات عملانية وقابلة للتنفيذ، وفق سياق يتقاطع مع التوجهات الاقليمية والدولية للبنان، تماماً كما حصل مع التمديد للمجلس النيابي ورفض التمديد لسليمان. ولا يبدو اليوم أن هؤلاء الأطراف المحليين، ولا من يقف خلفهم إقليمياً، في وارد الدخول في مغامرة الانتخابات النيابية، إن على صعيد قانون الانتخاب الذي لا يبدو متاحاً في الوقت الضيق الاتفاق عليه، وإن على صعيد توقع نتائج مشكوك فيها مسبقاً.

لا يبدو الأطراف المحليونومن يقف خلفهم في واردمغامرة الانتخابات النيابية

يقف المسيحيون مع أزمة الشغور الرئاسي على عتبة مرحلة حساسة، يعبّر فيها فريق عن رغبته في الذهاب الى الانتخابات النيابية بعدما وصلت مساعيه في تحقيق التوافق حول عون مرشحاً توافقياً الى حائط مسدود. ويذهب فريق مناهض الى إعطاء الاولوية للانتخابات الرئاسية، الأمر الذي تؤيده بكركي أيضاً.

خطورة المطالبة بإجراء الانتخابات النيابية كأساس لقلب التوازنات وتغيير النظام الحالي، بحسب منتقدي هذه الخطوة، أنها تتجاهل معطى أساسياً يتمثل في قراءة المرحلة الاقليمية والمحلية الراهنة قياساً بمرحلة الشغور التي حصلت مع خروج الرئيس إميل لحود من قصر بعبدا. تختلف ظروف مرحلة عام 2007 عن تلك التي يعيشها لبنان حالياً. لا قوى 8 آذار في الشارع ولا الساحات مفروشة بالخيم في وسط بيروت، ولا السراي الحكومي محاصر، ولا اعتصامات تعمّ البلد (ما خلا اعتصام هيئة التنسيق النقابية لأسباب مغايرة جذرياً). في ذلك العام كانت مقاربة الشغور الرئاسي مختلفة، لأسباب تتعلق بالمعطيات الميدانية وبالخلاف السياسي الذي كان قائماً في ظل صراع الثنائية السنية ـــ الشيعية الحاد. في المقابل كان الوضع الإقليمي على حدّته السياسية، لكن الساحات العربية لم تكن بعد قد تحركت شعبياً، ولا أشعلت الحروب والاحداث في سوريا ومصر وتونس وليبيا. في ذلك الوقت، لم يكن الاهتمام منصبّاً على معالجة الشغور كملف رئاسي مسيحي، بل كانت معالجته تتطلب مقاربة إقليمية مختلفة للوضع اللبناني برمّته، ما استلزم في نهاية المطاف اتفاق الدوحة.

مرحلة الشغور عام 2014 تختلف جذرياً عن المرحلة السابقة، لأن هذا الشغور بمعناه الرئاسي والمسيحي في آن واحد هو على المحك. فالقطبان السني والشيعي دخلا الى حكومة واحدة، بإيعاز سعودي وإيراني وأميركي، والوضع الأمني استتبّ نتيجة التفاهم الاقليمي بنسبة عالية من الاستقرار بحماية دولية، فيما تغلي الدول المحيطة بنا من سوريا الى العراق باشتباكات وحروب ومتغيّرات جغرافية وسياسية متسارعة. وهذا يعني مفهوماً مختلفاً تماماً لمقاربة ملف لبنان والشغور الرئاسي فيه.

لذا تكبر الخشية من تحول الشغور الحالي فراغاً، حين تبدأ الطروحات للذهاب الى الانتخابات النيابية غير المضمونة النتائج أو حتى في التهويل بالمسّ باتفاق الطائف. مفارقة المفارقات، في هذا المشهد السياسي، أن يطل الامين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله ليؤكد، ولو بعد سبعة أعوام من انفجار قضية المثالثة وما تلاها من حديث عن مؤتمر تأسيسي، رفض المس باتفاق الطائف. وكان سبقه الرئيس نبيه بري حين حسم على طاولة الحوار هذا الجدل لجهة التمسك بالاتفاق، في حين يطالب فريق مسيحي، رغم مسؤوليته، بطريقة أو بأخرى، عن الوصول اليه وعن رفضه له ما أدى إلى سوء تطبيق متماد له، بتغيير النظام وبمؤتمر تأسيسي وبتعديل الطائف، المعقل الدستوري الذي يفترض أن يتمسك به المسيحيون دون غيره.

عملانياً، ثمة سقوف عالية ترسم للانتخابات النيابية، مبنية على وقائع واستطلاعات بعيدة عن الواقعية، فيما تتوسع دائرة المطالبين بأن تكون الانتخابات الرئاسية وحدها اليوم محور اهتمام المسيحيين، وليس العمل الحكومي الذي يجب أن يكون محصوراً بتسيير شؤون الدولة فحسب، أو الإعداد لانتخابات نيابية قد تصطدم أيضاً بحائط مسدود. ولعلها المرة الاولى التي لا تخطئ فيها بكركي الحالية حين ترفض مقاربة أي عمل سياسي إلا من خلال إعطاء الأولوية لانتخاب رئيس للجمهورية في أسرع وقت.

ثمة مشهد مسيحي لا يفترض أن يتكرر بالذهاب الى مغامرة جديدة على مثال الارثوذكسي، والمراهنة العبثية على الرئيس سعد الحريري والسعودية في دعم وصول عون مرشحاً توافقياً، لأن من شأن أي خطوة ناقصة جديدة أن تدق مسماراً جديداً في واقع المسيحيين، رغم كل ما يمكن أن يقال عن الحق الدستوري في إجراء الانتخابات. ففي السياسة ثمة متغيرات، والأهم ثمة واقعية، كتلك التي جعلت نصرالله وبري يعلنان تمسكهما بالطائف في هذه الظروف تحديداً.