لكي يشن باراك أوباما حرباً، هو المنسحب من الحروب، يلزمه عدو كـ «داعش». فالتنظيم الأخير ليس دولة استوطنت الخريطة ووطدت موقعها فيها، بل هو مشروع تحول إلى دولة تغير الخريطة، ومن خلال إعلان الخلافة تغير الدولة ذاتها. فوق هذا فـ»داعش» عدو كامل للولايات المتحدة، ليس فقط لأنها تطارد رعاياها ورعايا الدول الغربية الأخرى في «أرض الإسلام» وتذبحهم، بل أيضاً لتفرعها عن منفذي جريمة 11 أيلول (سبتمبر) التي اختيرت ذكراها، بما لا يخفى من الرمزية، لإعلان «الاستراتيجية» الأميركية الجديدة.
لكنْ، على رغم هذا وذاك، فإن أوباما، في حده الحربي الأقصى، لن يُنزل جنوداً على الأرض مكتفياً بالقتال من السماء. وهو ما يمكن أن ننتقده عليه وننتقد خياراته، على ما فعلنا وفعل كثيرون غيرنا من قبل. بيد أننا بتنا مدعوين إلى التصالح مع حدود ما يذهب إليه أوباما، بحيث لا نُفاجأ بها ولا نُفجع كما لو أنها تحصل للمرة الأولى. فهو يخوض حربه في الجو، وقد يوسع رقعتها قليلاً لتضم سورية إلى العراق… وكفى الله المؤمنين القتال. لكنْ ماذا عنا نحن الذين يُفترض أن نقاتل على الأرض، لأن الأرض أرضنا، والذين يُفترض أن نقاتل القتال الأطول في ما لو انسحب أوباما، والانسحاب من عاداته، وأيضاً القتال الأعمق لأن الأمر يمسنا في الدين والثقافة والعادات والأخلاق وأحوال النساء والأقليات، إن لم يكن في المأكل والملبس واللغة أيضاً؟
لقد استعرضت المنطقة قصورها المخيب للأمل حين تبدى أن حكومة حيدر العبادي أقصى ما يمكن التوصل إليه تعبيراً عن الوحدة الوطنية العراقية. وهذا علماً بأن السنة الفاعلين لم يجدوا مكاناً فيها، فيما الأكراد لم تحملهم إلا الضغوط الأميركية، التي تراهن على «الموجود»، على ركوب هذا المركب الخشن. أما التعويل على المعارضة السورية «المعتدلة» فمسألة صار فيها، بعد كل ما حصل، نظر كثير. صحيح أن بطء أوباما في الدعم وقلة سخائه أضعفا ذاك الاعتدال، إلا أن البذور المبكرة لم تكن، هي الأخرى، مشجعة على عقد الرهانات الكبيرة. أما تركيا التي مررت وتمرر المسلحين، وتقاطع اقتصادها في إحدى زواياه مع اقتصادهم، فيلفها الغموض الكبير الذي يزيده وجود قرابة خمسين من الرهائن في ضيافة «داعش».
والأمر يتعدى الأنظمة الموصوفة بالاعتدال، بقدراتها وتناقضاتها، إلى أوضاع الطبقات الوسطى المدينية السنية التي تُدعى، للمرة الأولى، إلى حرب كهذه. فهنا، حيث ترعرعت الدعوات القومية العربية والناصرية، قبل أن يتولى العسكر مصادرة الدعوات وتسريح الدعاة من السياسة، ثمة أشياء كثيرة تلح على المراجعة. فماذا عن تراكم ضخم من الأفكار والخرافات، فضلاً عن القعود والجبن حيال مسلمات سياسية وثقافية عكست نفسها على التعليم وطرق التدين، وماذا عن المسؤولية وقد أصابنا سيد الأزهر مؤخراً بإحباط كبير حين رد «داعش»، فيما هو يدينها، إلى مؤامرة غربية وصهيونية؟ واقع الحال أن هذه الحرب الضعيفة الحظوظ تواجهنا بعجزنا المزمن عن إنتاج أي تركيب مقنع بين مكافحة الاستبداد ومكافحة التخلف، والاثنان ولّدا الارهاب والتطرف الدينيين. وهي تواجهنا بضعف الطرف الذي يمكنه أن يحمل هذا التركيب وبحمله إياه يجر أميركا وباقي العالم إلى موقع أكثر تقدماً وإقداماً.
وعلى هامش ذلك كله، تقف شلة من «أهلنا» الممانعين الذين تبين أن مشكلتهم مع أميركا هي أنها لا تُدرجهم في أحلافها على ما فعلت في 1990. فهل نستطيع أن ننكر أنهم هم أيضاً من «الأهل»، وأن طريقتهم هذه مكملة لطرق خصومهم في المجمع الأهلي الكبير الذي هو «أمتنا» الغامضة النسب؟