يغدقون علينا الهوية. ويغدقون علينا التصنيف؛ فأنت معتدل أو متطرف. ثم يطلب منك أن تكون حراً، وأنت لا تستطيع التحرك إلا في إطار الدائرة التي رسمت من حولك. ولا تزر وازرة وزر أخرى كما ورد في القرآن الكريم. لكن التصنيف يفترض انك مشارك في الجريمة. ألا تضعك الهوية في سلة واحدة مع المرتكبين؟ تتمرد، فتخرج من الدائرة. و«أفردت أفراد البعير المعبد»، كما قال طرفة في الجاهلية. تنعكس وجهة التاريخ. نعود من الإسلام إلى الجاهلية.
تمردت الشعوب العربية فكان جزاؤها داعش. إذا قلت انهم جاهلية جديدة، فأنت منهم بالتكفير، ولا تكفير في الإسلام إلا لمن ينكر شهادة «ان لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله». لكن سيد قطب كفَّر الأمة، وهو الآن في عداد الملائكة لدى هذه الجاهلية الجديدة.
تمعن التفكير. تستخدم العقل. تضطر إلى الاحتيال الفقهي كي تقول رأيك. تتهم بتدوير الزوايا. وهل يمكن ان تكون الدائرة مربعاً؟ تحتج بالنسبية المعرفية للخروج من قيد الحقيقة المطلقة، مع المطلق تشعر بانعدام الحرية، ومع النسبية المعرفية تشعر ان الأساس الأخلاقي لوجودك يتزعزع.
يقولون: الآن عاد الاستعمار، يخفى عليهم ان عودة الاستعمار كانت منذ حرب العراق وتدمير الدولة، وليس بإلغاء الطاغية الذي كان يجب ان يلغى. يعود الاستعمار من أجل الخلاص من طغيان داعش. يعود الصليبيون لإنقاذنا من جاهلية داعش. أليس في ذلك تناقض الاستحالة المنطقية. لم يخرج الاستعمار من المنطقة كي نقول انه يعود.
يعود الاستعمار بسواعد سنية للخلاص من الخلافة المستجدة التي يقال انها رسمت خرائط المنطقة أو أعادت رسمها لتشمل مساحة كانت تغطيها السلطنة العثمانية. ومتى ادعت هذه السلطنة الخلافة إلا عندما انهزمت امام الروس وخسرت جزءاً من البلقان في أواخر القرن الـ18؟ العودة من الإسلام إلى الجاهلية تشبه النكوص من الدولة السلطانية إلى الخلافة. رحم الله الماوردي: ألم يتخلص من الخلافة بالتنظير للدولة السلطانية؟
كل ذلك يصير ثانوياً أمام الإدراك ان في دماغ الإنسان عدة مراكز للتفكير وانك عندما تكون لديك ردة فعل ما، فإن جيناتك الثقافية هي التي تنطق. ما ينطق ليس أنت بل نظيمتك الثقافية. أنت نتاج الهوية التي أغدقت عليك. أنت لست أنت، بل هو الكامن في باطنك. ألم تعط الهوية المفروضة عليك؟ والهوية هي الثقافة التي تقرر من أنت وكيف تفكر وكيف تتصرف. تلغى التعددية ضمن ذلك الأنت. ليصير المتعدد فيك تعبيرات متنوعة عن واحد هو الذاكرة. ليست هويتك سوى هذه الذاكرة التي تعيد تركيبها.
يعاد تركيب الذاكرة حسب الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية، الخ… يخرج الرئيس الأميركي بخطاب ذي أناقة لا متناهية. هو قرر محاربة الشيطان الأكبر، وعلى الدول السنية في المنطقة ان تشارك في القتال والتمويل. على هذه الدول ان تنفق ما تبقى لها من أموال النفط في هذه المهمة النبيلة. يفعل السادة الحكام العرب والمسلمون ما يطلب منهم بكل سرور. لقد دُجنوا في سبيل البقاء في السلطة. سيف البربرية مسلط فوق رؤوسهم. هم سعداء بالآتي لإنقاذهم، وهم سعداء بأن لا يتهموا ببربرية كانوا من مؤسسيها. يجدر التكرار: هي بربرية داعش حقاً؛ لكنهم هم أسسوها.
ستكون حرباً أنيقة بالنسبة للأميركيين وحلفائهم الغربيين. يشاركون في حرب جوية، ولا تتسخ بذلاتهم بأوحال هذه الأرض العربية ولا هذه الحضارة التي آن الأوان لوصمها بالبربرية. إرادة شعوب البرابرة يجب ان لا تؤخذ بعين الاعتبار. لا يعتبر البرابرة إلا إذا جرى إلحاقهم بالحضارة والحداثة. شعارات حرية، كرامة، عدالة اجتماعية، كل ذلك يأتي بحثه مع الشعوب الرافضة لداعش بعد الخلاص من هذه الأخيرة. صحيح ان هذه المنطقة كانت مهد الحضارة منذ آلاف السنين، لكنها عادت إلى البربرية، كما عادت من الإسلام إلى الجاهلية. يستخدمون منطق سيد قطب في التكفير، عن سابق دراية أو غير دراية. يعممون منطقاً كان في أساس الحجاج الذي قاد إلى هذه الحالة الذهنية عند العرب والمسلمين.
تشويش الحالة الذهنية بعد حالة الفوضى السياسية والاقتصادية والاجتماعية يساهم في إعادة رسم حدود الدول في المنطقة. يقال ان داعش ألغت الحدود. اذن يعاد رسمها من جديد كي لا يتمكن أحد بعد الآن ان تساوره نفسه بالمس بها.
الحدود التي يرسمها الغرب هي المقدس الوحيد. تخدم داعش هذا المقدس لا مقدساتها. اخترعت ديناً جديداً ووضعته في خدمة السياسة الغربية، وادعت مناهضة حكام المنطقة، لكن النتيجة هي تثبيتهم أو خلق طغاة جدد.
الحرب القادمة أنيقة في انه لا اعتراض عليها في الغرب أو في منطقتنا. انتهى عهد الاحتجاج، انتهى عهد النقاش في المجال العام؛ هذا النقاش الذي اتخذ أشكالاً غير مسبوقة أبان حرب فيتنام. وهل للحريات المدنية مكان إذا لم يكن هناك احتجاج واختلاف ونقاش، أصبح الجميع واثقين بالسلطة. قيل ان السلطة مفسدة. لم يعد الأمر كذلك. السلطة العالمية الآن هي المنقذة. تنقذ العالم من البربرية. البربرية نحن أهل هذه المنطقة. وقد نال تشخيص السلطة وموقفها موافقتنا. جرى تدجيننا بعد التمرد والثورة وكانت داعش أداة ثمينة في إيصال الأمور إلى ما وصلت إليه.
هي حرب ضد الإرهاب لا على الاستبداد. طغاة ثلاثة يتحالفون حينا ويتقاتلون حيناً آخر: السلطة الدولية، سلطات الاستبداد العربي، سلطة الماضي المزعوم انه يتوّج في الخلافة. أما سعي الشعوب العربية من أجل الحرية فهو أمر آخر.