IMLebanon

حرب «داعش» والغبراء؟!

الذين تأملوا كثيرا حالة العرب في العصور الوسيطة وقبل الإسلام، مما بين القرنين الخامس والسادس بعد الميلاد، بحثوا عن حالة من الحرب تماثل حرب طروادة في التاريخ الغربي، نوع ما من الصراع النبيل حيث يُولد الأبطال، ويوجد الشهداء، وتظهر الشجاعة، ويتبين حال الإنسان في قوته وضعفه. قصة ما تروى ويحكيها الحكاؤون في المقاهي القديمة، وعندما تأتي الحداثة تتلى على شاشات التلفزيون، وربما يعتز بها بعضنا فيحتضن ما جاء في الـ«سي دي» ليحكي له ما أراد عن «حرب البسوس» أو حرب «داحس والغبراء». الأولى كانت بين تغلب وبكر، وكان السبب المباشر جملا، والثانية بين عبس وذبيان، أما السبب هذه المرة فكان حصانا من هنا وآخر من هناك، وفي الحالتين كانت الحيوانات قد ضلت الطريق، ولكن الصراع والحرب والموت استمرت 40 عاما. في الأولى ذاع اسم البطل المهلهل الزير سالم، أما في الثانية، فكانت سيرة عنترة بن شداد، فلكل حرب لا بد من بطولة، أو هكذا كانت الرواية.

ماذا سيقول الحكاؤون عن غزوة «داعش» للموصل، لم يضل جمل، ولم يبعد حصان، ولا يمكن القول إن حربا من هذا النوع سوف توحد العراق الذي تفكك منذ وقت طويل، أو يظهر فيها بطل عاش أو مات من أجل أهداف سامية. لا يمكن القول فيها إلا إنها حرب جرت بين أشقاء، في «البسوس» و«داحس والغبراء» كان المتحاربان أبناء عمومة، وهذه المرة كانوا أبناء وطن واحد كان مغرما بتوحيد الأمة العربية أكثر من الاهتمام بجمع العراقيين. من الممكن بالطبع إلقاء اللوم على طرف ما يتحمل المسؤولية عما يجري من قتل وذبح، فصدام حسين خلق غلالة سوداء تخفي ما تحتها من انقسام وفرقة، وما إن سقط الرجل حتى سلت السيوف وخرجت الخناجر من أغمادها. حدث ذلك في حرب صدام الأولى، عندما قام باحتلال الكويت، وبعد التحرير كانت ثورة الشيعة وهبة الأكراد، وكانت المذابح والدماء تغطي مياه نهرين. الغزو الأميركي يمكن أن يكون مسؤولا، حينما تعامل مع العراق من خلال نظام «المحاصصة»، فبدلا من الصراع على قسمة العراق، فلتكن «القسمة» طوعية، محددة في الدستور والقانون، حتى يعرف كل طرف مكانه، ومحافظته، وجيرانه. ولكن المعضلة في القسمة أنها لا يمكن أن تكون «عادلة» طالما أن في الأمر عددا، وأن تحت الأرض نفطا، فكانت الأولى ما عرف بطغيان الأغلبية من الشيعة في أرض الرافدين، وكان المالكي رئيس الوزراء عنوانا لها. وهكذا أصبح الرجل مرشحا لتحمل المسؤولية التاريخية عن الكارثة الكبرى لانهيار الدولة العراقية للمرة الثالثة (مرة بعد غزو العراق للكويت، ومرة بعد الغزو الأميركي للعراق، ومرة بعد الخروج الأميركي من العراق!).

ولكن التاريخ يمكنه أن يتحمل المسؤولية هو الآخر، فكم من المرات سمعنا خلال الفترة القصيرة الماضية عن اتفاقيات سيكس بيكو، وكيف قسمت الشام أو سوريا الكبرى أو الهلال الخصيب. شيء من هذا جرى تقسيمه قطعا وراء الأخرى، وأخذت بريطانيا نصيبا وفرنسا نصيبا آخر. فهل من الممكن أن يكون ما تفعله «داعش» الآن يعود إلى ما جرى بعد الحرب العالمية الأولى، في زمن ما منذ مائة عام؟! لاحظ ما جرى، خرج لبنان من سوريا، وخرجت فلسطين من الشام، وانقسمت فلسطين، وخرج الجميع، وبقي العراق وحده، هو مركب من وحدات ونقاط تركيز بين سنة وشيعة ومسيحيين، وعرب وأكراد وتركمان، وجماعات أخرى كثيرة انقسمت دوما ما بين أغلبية وأقلية في داخل كل منها كراهية. هل كانت الدولة العثمانية أكثر رفقا بكل هؤلاء، وإذا كان الحال كذلك، فلماذا ثورة الأكراد الدائمة في زمن الخلفاء وفي وقت الدولة العلمانية؟! على أي حال لا يمكن تجريب التاريخ مرتين أو مرات، وما نشاهده على أرض الواقع بلا بطولة ولا شهداء، وإنما حالة من الإخفاق التاريخي الكبير، أولا لأن أغلبنا لم يعرف أبدا كيف تكون المواطنة، وكيف يتعامل الصغير مع الكبير، والغني مع الفقير، والأغلبية مع الأقلية، وربما لم يخطر ببالنا أن تكون الأغلبية أو الأقلية عابرة للجماعات العرقية والمذهبية، فيكون هناك يسار ويمين. وثانيا لأن من حاولوا عبور الفجوات الكثيرة في مجتمعاتنا تصوروا أن الدين يمكنه القيام بهذه المهمة. لاحظ كيف امتد التطرف، فكان تدينا محمودا معتدلا، ثم صار سياسيا عنيفا على يد حسن البنا، ومن ضلعه خرج سيد قطب ليجمع الناس على الإيمان به، أو الكفر به، فتكون حرب. وهكذا جرى التوالد، فكانت الجماعة «الإسلامية»، ومنها جاءت جماعات للجهاد، حتى وصلت إلى «القاعدة» التي من صلبها ظهرت الدولة الإسلامية في العراق والشام أو «داعش». منحنى صاعد هكذا من العنف والقسوة، لا رفق هناك ولا رحمة، تدخل النساء إلى البيوت مؤقتا حتى يأتي وقت القضاء على الفتنة النسائية، فورا بعد دفن الفتنة السياسية، وما بين هذا وذاك تتدفق طوابير عربات رباعية تحمل مقاتلين وكفى، لا بطولة، ولا استشهاد، ولا هدف واحد نبيل وإنساني.

المعركة التي بين أيدينا الآن ليست جديدة كليا على التاريخ البشري، لهذا كانت حرب المائة عام، والـ30 عاما في أوروبا، وفي آيرلندا كان هناك خليط؛ حروب جيوش وعروش ومذاهب دينية. ولكن أيا من هذا لا يمكن تصوره الآن، لم تصف التقسيمات المعروفة بين الأغلبية والأقلية، ولا بين مذهب أو آخر، ولكن كان هناك الاتفاق على كيفية التعامل مع هذه التقسيمات، والأخطر عدم اللجوء إلى العنف والقوة المسلحة أيا كان المدى من الخلافات. وصارت اليابان دولة حديثة في تلك اللحظة التي امتنع فيها على طبقة «الساموراي» أن تحمل سلاحا إلى اجتماعات سياسية. وربما عرفت إنجلترا طاولة الملك «آرثر» المستديرة في «كاميلوت» منذ قرون بعيدة، ولكنها في النهاية وبعد أثمان فادحة عرفتها، عندما استقر الأمر لمجلس العموم البريطاني.

كل ذلك صار أحلاما الآن، وما بين أيدينا في العراق، وسوريا معها، ومن يعرف من سيكون على الطريق، بداية فصل آخر من تاريخنا، ربما ينهي فصلا سابقا عرف بالربيع، ولكنه خلق فراغا هائلا للقوة سمح لظاهرة «داعش» بالبزوغ واقتحام المدن والقتل على نطاق واسع، والتدمير على نطاق أوسع. هل يمكن إنشاء جماعة من العقلاء والحكماء يمكنهم منع حرب الأربعين عاما التالية من الحدوث بين السنة والشيعة، أو بين كل أغلبية وكل أقلية في المذهب أو العرق؟ هذه المرة لا يوجد حتى حصان أو جمل!