لم تتوقف الولايات المتحدة الأميركية عن بسط نفوذها وسيطرتها استثماراً لنهاية الحرب الباردة بعد انهيار حلف وارسو. ما كان يطمح إليه الروس والصينيون وسواهم من الدول القوية والغنية لإقامة نظام شراكة دولية في المصالح لم تأخذه الولايات المتحدة في الاعتبار. على العكس من ذلك اتجهت الإمبراطورية الأميركية إلى محاصرة هذه الدول من خلال الإمساك بالمقاليد الاقتصادية والأمنية التي تقلص حتى المدى الحيوي لهم في الجوار في أوروبا الشرقية وفي آسيا. في المنظور الإستراتيجي الإجمالي.
وبرغم بعض العثرات أو التعقيدات، فالتوازن الفعلي هو الآن لمصلحة أميركا ولا يمكن في المدى القريب تعديله بمشاريع من نوع التحالفات التي يسعى إليها الروس من خلال كتلة دول البركس ذات الطابع الاقتصادي أو تحالف شانغهاي الذي يتضمن بعض التعاون الأمني. في الشرق الأوسط نجحت أميركا في سياسة الاحتواء المزدوج لمعسكرات كانت تدَّعي تحالفاً أو صراعاً معها.
منذ نشر القواعد العسكرية في طول المنطقة وعرضها ثم احتلالها العراق، كان الهدف الأميركي الإمساك بمركز «العالم القديم» ومحور القارات والانتشار لإعادة تشكيل نظام إقليمي «شرق أوسطي» يحتوي العمق الآسيوي والأفريقي والأوروبي الشرقي. فلا يمكن تأمين المصالح الاقتصادية التي كانت أميركا تسيطر عليها أصلاً، ولا سيما النفط، إلا من خلال منظومات أمنية وسياسية. لذلك كان لا بد من الاشتغال على فكرة الهوية أو الرابطة التي تجمع هذه الخيوط والتقاطعات التي تخترق هذه البيئة وهي الإسلام السياسي في وجهيه المعتدل والمتطرف. كان على هذه المنطقة ان تعيش تناقضات حادة وصراعات وأزمات من النوع الذي يساعد على إدارتها وفق الحاجات والمصالح والاعتبارات المطلوبة.
لا جديد في هذا «التحالف الدولي ضد دولة الخلافة» سوى أنه يستثمر على هذه «القنبلة القذرة» التي فجرها هذا التحالف نفسه وشوهت كل صورة المنطقة وثقافتها، وألزمت الجميع بشعور غير قليل بالمسؤولية عما آلت إليه نزاعاتها، وفي لحظة من العجز الحقيقي عن معالجة المسلمين لأزمة إسلامهم والعرب بشكل خاص نتيجة فشلهم في تسوية علاقاتهم الداخلية.
خطة الرئيس الأميركي الآن لمكافحة «داعش» و«الإرهاب» بالضربات الجوية أشبه بحكاية «تنقية بزر الصبّار». فلا ندري أين ستمتد وإلى أي زمن ولأية مواقع وأهداف، ولا ندري من هي الجهات التي ستستفيد من تمشيط هذه المنطقة التي إذا خلت من «داعش» لن تخلو من الغليان الطائفي والقبَلي ومن الجماعات المسلحة الرسمية وغير الرسمية. كما لا نعرف بعد حقاً ما إذا كانت كيانات المنطقة ستصمد أمام الجراحة ولو كانت بواسطة «العمليات التقنية النظيفة». وكي لا نتوه في تفاصيل أصبحت خبزنا اليومي من تفجير وإرهاب وقتل وخطف وما فيها من فنون أخرى، فإن هذه الحرب الكونية الرابعة التي طال أمدها هي حرب ليست على تفكيك إمبراطوريات بل لتمزيق شعوب وشرذمة دول وأوطان، تأكيداً للمثل الأعلى السامي الذي يرقد في الفكر الاستعماري الغربي والمعبَّر عنه بأشكال مختلفة من العنصرية بأن الغرب هذا هو نهاية التاريخ واكتمال الحضارة وإلهه الوحيد السلطة والمال اللذان يقفان ضد الإنسان. لم يترك لنا هذا الغرب فرصاً كافية للتفكير بشؤوننا وبتجريب خيارات أخرى، ولن يعطينا اليوم الوقت لهذه المراجعة التي يقتضيها «معنى وجودنا» أو حتى فحص هذه الممارسة التاريخية التي قادتنا إلى حال من الخضوع والشلل أمام إرادات القوة، لكن هذه القضية هي المدخل الوحيد والضروري لكي نعترف أننا ذهبنا بأرجلنا إلى المحرقة الاستعمارية، وأننا أنتجنا بعقولنا وننتج كل يوم في تفاصيل حياتنا وممارساتنا عبودية من نوع جديد يسرّ الغرب الاستعماري أننا نؤمن بها ونتلذذ بمرارتها ونتوهم في جميع مواقع التأثير السياسي أنها طريقنا إلى غدٍ أفضل.