IMLebanon

حروب التدمير الذاتي

منذ اندلاع العنف في العراق وبلاد الشام أصبحت الجماعات المنظمة والمسلحة صاحبة القرار على حساب أي عمل سياسي سلمي مدني آخر. هكذا تصادر إرادة الناس والمدن وتخضع بالقوة لسلطة هذه الجماعات، أكانت ترتبط بجهة رسمية حكومية أم بجهة معارضة. الشرعية هنا للقوة وليس لسواها.

تجذر العنف في هذه البلاد لأسباب عدة طال الحديث عنها. لم تتكوّن ثقافة سياسية سلمية ولم تعرف هذه البلاد الحرية فأخذت نزاعاتها المتنوعة مسالك القوة من دائرة العصبية، ولحمتيها النسب (القرابة) والولاء (الهوية الثقافية)، إلى الاستقواء بكل خارج يمدها بعناصر الحماية والمناعة. في واقع الحال لم تكن حدود سايكس ـ بيكو كما توهمناها وأطلنا الهجاء فيها.

الكيانات التي رسمت حدودها تلك الاتفاقية الاستعمارية تعرضت للاختراق منذ اللحظة الأولى واستمرت حركة التواصل السياسية والمادية بين مكوناتها. قامت حركات سياسية منظمة فوق هذه الحدود، ونشأت حركات مسلحة تعاونت في كل هذه المناطق من ثورات سوريا وفلسطين ولبنان، وانتشر الشعب الفلسطيني المهجّر في أقطار الجوار، وتدخلت الأنظمة وجيوشها مرات ومرات في شؤون جاراتها، واجتاحت خلال العقود الأربعة الماضية دولاً شقيقة، كما حصل من العراق وسوريا تجاه الكويت والأردن ولبنان. لكن ولا مرة خلال المئة عام المنصرمة على تلك الاتفاقية قامت دولة أو نواة دولة تشكل نقيض سايكس ـ بيكو أو تشكل مشروعاً جاذباً توحيدياً حتى في العهد الذهبي لفكرة الوحدة والقومية العربية الناصرية والبعثية. فلا الجمهورية العربية المتحدة (مصر وسوريا) شكلت هذا النموذج، ولا حكم البعثيين في سوريا والعراق. على العكس من ذلك، دار تاريخ هذه السلسلة العربية من الكيانات المشرقية على نزاعات إقليمية وجهوية وطائفية ولو خمدت حيناً تحت سلطتَي الترويض الإيديولوجي والقمع السياسي، وانتهى إلى استدراج الوصايات والاحتلالات على أنواعها حتى صارت سايكس ـ بيكو أملاً وحلماً غير ممكنين.

انفجرت «علاقات الأخوة» حروباً أهلية داخلية وخارجية في الأردن ولبنان والعراق وفلسطين بين مكوناتها وفي ما بينها، وانتهت إلى انقسامات عميقة بين «الشعوب» سوّغت الاحتلالات واستدعتها أحياناً كثيرة لدى فئات من هذه «الشعوب» كما حصل واقعياً في هذه البلدان ويحصل الآن في «طلب العون والنجدة» من خارج على داخل.

باسم منظومة من الشعارات والتبريرات التي تغلف النواة المرّة لهذه الحروب، اختلط الحابل بالنابل وسقطت الحدود هذه المرة بفوضى عارمة نتيجة «مشاريع» تمثل «داعش» إحدى صورها إلى جانب الكثير من الصور الأخرى التي لا تقل خطورة في صناعة المشهد الطائفي في مقدماته وتداعياته ونتائجه. ولا نملك الآن أن نتحاور مع «داعش» ولا مع غيرها بما في ذلك «ميليشيات الأنظمة» وأدواتها التي لا تقوم على شرعية سياسية حقيقية، بل على غلبة سابقة أو لاحقة، وعلى إسناد خارجي سابق أو لاحق، وعلى عصبية قديمة أو مستجدة. هكذا ستأخذ النيران مداها الطبيعي ما دامت لا تتدخل نيران أقوى منها أو مطافئ بحجم الحريق الذي جمعت له كل هذه الأضاحي من أجل التخلص من الماضي والحاضر معاً.

فلا أفق الآن إلا بنجدة مجتمع دولي أدنّاه واستخفينا به، أو بقوى دولية عدوة نطلب ودّها وصداقتها الآن، أو بيقظة من حكام عرب أو غير عرب في الجوار يقض مضاجعهم هذا الحريق أو يستصرخ ضمائرهم، أو من قادة «حركات سياسية مسلحة» يستدركون هذا المشهد الكوارثي الذي لا يبقي لهم إلا عمراً مديداً من الحرب والدماء والدمار. في هذا المسرح من الحروب الأهلية والطائفية والدينية لا مجال لأي انتصار، مهما احتشد له الأنصار ومهما شدّت روابطه لغة قداسية دينية هي مشتركة وموجودة لدى كل الأطراف ولديها المخزون التاريخي نفسه القابل للتداول. ولعله مسرح يتحدث فيه رئيس دولة أو حكومة هنا أو هناك باللغة المذهبية ولا يوفر لمرجعيته الدينية تلك اللغة. هذه حروب الأخوة الأعداء التي يقف العدو الخارجي منها معلناً أنه ليس مسؤولاً عنها ولم يفعل بجرائمه مثلها. ويقول آخر إنه لا يريد أن يكون طرفاً وشريكاً فيها كما أعلن الرئيس الأميركي باراك أوباما عن حرب سوريا والعراق التي «صارت طائفية». إنها لعنة كل هذا التراث السياسي للأنظمة والحكام والقادة والأحزاب والحركات ومن يؤيدهم.