انتقلت حروب التراث الى الفضاء الافتراضي. محاولات تطويعه وتطويقه وإلباسه لبوس السلطات الحالية، والتي دارت على امتداد القرنين التاسع عشر والعشرين، ترافقنا اليوم على شبكة الانترنت.
كل الإشكالات المطروحة في الغرب حول حرية الشبكة ومجانيتها والحفاظ عليها في منأى من تسلط رؤوس الأموال الكبرى، تبدو هينة أمام ما تعاني منه المواقع العربية من انحياز واستغلال للتراث الذي وصل الينا من الحضارة العربية في المعارك السياسية الراهنة.
المشكلة يلمسها كل من يبحث على مواقع ترفع راية نشر التراث وتعميمه وفتح المجال للعمل الجدي عليه، عن أي مؤلف يخرج ولو قليلاً عن أطر وحدود الرقابة الاجتماعية والسياسية المفروضة من الجهات المشرفة على المواقع المذكورة. لا يتناول الحديث هنا تلك الشبكات الصريحة في اظهار الانتماء المذهبي او الديني (السلفي او الاسماعيلي او الشيعي، على سبيل المثال) والمهتمة بجانب واحد من التراث العربي والاسلامي، بل يتوجه الى مواقع تقدم نفسها كمراجع في توفير الكتب التراثية التي تتجاوز أساسيات التاريخ والسير الدينية والتفسير والحديث، الى كتب فلسفية واشكالية ما زالت مضامينها تقلق المجتمعات العربية حتى اليوم.
غني عن البيان ان حجب الكتب التراثية المشار اليها لا يرجع الى حقوق الملكية الفكرية ولا الى نزاعات قانونية مع دور النشر، قد يثيرها نقل هذه الكتب الى المواقع الالكترونية، لسببين: الأول ان العالم العربي يشهد فوضى هائلة في موضوع حقوق الملكية ما يجعل الكتب الجديدة التي لم يتعدّ تاريخ صدورها الأشهر القليلة تجد طريقها كاملة الى الشبكة من دون ان تفلح دور النشر او المؤلفون في الحصول على أقل الحقوق القانونية. والثاني أن الكتب التراثية بأكثريتها الساحقة قد نشرت وحققت مرات ومرات منذ عقود طويلة وسقطت بالتالي كل حقوق الملكية الفكرية للناشرين والمحققين.
تبقى مشكلة الرقابة الدينية والسياسية التي تعيق الارتقاء بالمضمون العربي لشبكة الانترنت من مجرد الترفيه والمواقع الاخبارية العادية والتواصل الاجتماعي (الذي يتعرض الى نوع آخر من الرقابة) وبعض الاعمال التجارية، الى أداة علمية ومعرفية تساهم في إنجاد الباحثين والطلاب والكتّاب بما يحتاجون اليه في عملهم ودراستهم وأبحاثهم. وهذا قبل مناقشة مسألة الدخول المجاني او المدفوع الثمن. أما المبادرات الاكاديمية القليلة في المجال هذا فلم تؤتِ أُكلها بعد.
وتصح هنا الاشارة الى صعوبة العثور على مؤلفات أعلام مثل الحلاج والسهروردي وابن الراوندي والسجستاني (ابو يعقوب الفقيه الاسماعيلي) والكليني والمجلسي والشيخ المفيد على غير المواقع المتخصصة في الأدبيات المذهبية و أقل من ذلك على مواقع القرصنة. هذا ناهيك عن ندرة نصوص السجالات المسيحية العربية مع المسلمين مثل نصوص ثيودور أبو قرة وغيره.
يملي هذا الكلام الآن تزايد الاهتمام العام في الخلفيات الثقافية والدينية التي ترتكز اليها حركات الاسلام الجهادي والسجالات السابقة التي خاضها العرب والمسلمون قبل مئات الاعوام مع فئات رفعت حينها شعارات مشابهة. ويبدو من غير المقبول توسع الحظر على الكتابات السجالية التراثية من المكتبات الورقية الى تلك الالكترونية اذا أردنا فعلاً الخروج من عنق زجاجة الازمات المتنوعة التي تجتاح مجتمعاتنا وخصوصاً إعاقة وصولها الى الاجيال الشابة من الباحثين والقراء.
لقد أزف وقت الاعتراف بتراثنا كما هو، بتعدده وتناقضاته وتعرجاته والاقلاع عن محاولات طلائه بلون واحد، تمحوه أولى قطرات المطر.