IMLebanon

حزب القضم اليومي للتوازنات والمؤسسات والحريات

 

ميزة منظومة الممانعة التي يقودها في لبنان «حزب الله» في الأمن والسياسة وأعوان «حزب الله» في الثقافة والإعلام – وهؤلاء كانت محطتهم الأخيرة التحريض السخيف واللعين على الصحافية حنين غدار والروائي الياس خوري – أنّها منظومة تحارب ثلاثة أخصام لها في وقت واحد: التوازنات الطائفية، المؤسسات الدستورية، الفضاءات الحرة المدنية والثقافية.

هي تعمل على كسر التوازنات الطائفية أو تطويعها لحساب هيمنة فئوية تتعامل مع لبنان على أنه كان شيعياً امامياً قبل المماليك والعثمانيين ثم أضحى مارونياً فدرزياً فسنياً الى ان عاد وتاب لتشيعه الإمامي بعد أن أعيدت صياغة الأخير بروح الثورة الاسلامية الايرانية ووهجها.

وهي تعمل على قضم المؤسسات الدستورية وتفريغها من مضامينها بفرض ايقاعات التعطيل والفراغ عليها، وامتحانها الدائم بمفارقة ان «المقاومة»، أي اباحة السلاح في أيدي «حزب الله» ومتفرقاته ومفرقعاته، هي في غنى عن الاجماع الوطني، لكن على الآخرين ان يتفوهوا غصباً واكراهاً بمنطوق الاجماع حول المقاومة، هذا الاجماع الذي تتفاخر المقاومة نفسها بأنها في غنى عنه، فتزدريه.

لكن منظومة الممانعة اذا كانت تواجه ما هو «تقليدي» عند اصطدامها بمنطق التوازنات الطائفية وبمحورية الثنائية الاسلامية – المسيحية التي يقوم عليها البلد، فإنها تواجه في الوقت نفسه ما يفترض به تجاوز المعطيات الأهلية، وبمعنى ما تحديثها وترشيدها، أي المؤسسات الدستورية، وحقيقة أن لهذا البلد تاريخاً دستورياً متواصلاً منذ العشرينيات من القرن الماضي والى اليوم، ما يشكّل بالفعل استثناء مهماً في محيطه العربي الذي تزيد فيه أو تنقص فترة الانقطاعات الدستورية.

فرغم كل المصائب التي تشتمل عليها أو تنتجها التركيبة اللبنانية، ثمة تجربة حافلة من «الفصل بين السلطات» في هذا البلد، وهذه التجربة هي التي تتعرّض للتهشيم والقضم، تعطيلاً بعد تعطيل، وفراغاً في اثر فراغ، حيث أن كل تجربة شلل لمؤسسة دستورية ما يؤدي بالنتيجة الى ضياع الفاصل بين المؤسسات ثم الى ضياع الشكلانية المؤسساتية بحد ذاتها.

قد يشبّه لمنظومة الممانعة أحياناً أنها تترفّع عن التوازنات الطائفية، لكنها تعود فتدرك بنفسها أن ما تفعله ليس سوى الدفع باتجاه الامعان في منطق الغلبة الفئوية النافر. وقد يشبّه في المقابل لمنظومة الممانعة أو لأخصامها أن لـ»حزب الله» مشروع دستور بديلاً للبلاد، وأنه يمتلك مفاتيح «تأسيسية»، لكن فاقد الشيء لا يعطيه في هذا المجال: فمشكلة الحزب ليست مع هذا الدستور بالذات، وإنما مع الفكرة الدستورية المبنية على الفصل بين السلطات، وهو لا يفقه الا المنطق الايراني، اي منطق التراتب بين السلطات بحيث تكون كل سلطة منتخبة ذات طابع دستوري هي ظل لسلطة الباسدران والخبراء والولي الفقيه. فكم أنّه حوار مجدٍ ما يمكن أن يدور في هذا البلد بين من يدعو الى وضع سلاح الحزب في «كنف» الدولة، وبين من لا يرى دولة الا كـ»ظلّ» له.

تبقى الجبهة الثالثة: ضد الفضاءات الحرة المدنية والثقافية. ميزة «حزب الله» أنه، بخلاف أخصامه السياسيين، يعطي هذه الفضاءات حقّها، أي يحسب حسابها عندما يخاف منها. ما لا يستطيع هذا الحزب فهمه أنّ السياسيين في هذا البلد قد يتقدمون وقد يتراجعون في ايقاعات المواجهة معه، أما النخب المدنية والثقافية، وخصوصاً تلك المنبثقة من تربة أهلية شيعية، فهي لا تكلّ ولا تملّ في عملية التنديد بما يحاول فرضه هو من ثقافة معادية لكل ما هو تعددي، وليفانتيني، وكوزموبوليتي، في هذا البلد، ثقافة مهجوسة بمكافحة التطبيع مع الحداثة الغربية وتداعياتها، وثقافة معنية فقط بإملاء وجهة نظر النظام الايراني حول الصراع العربي – الاسرائيلي، مخلوطة بالموروثات البعثية، وفرض هذا الإملاء بشكل عُصابي يظن أنّه من الممكن وضع الأقفال على المياه الجارية.

لكن وصف «حزب الله» بأنه يمتلك «مشروعاً» أو يعمل على «التأسيس» أو يفرض «ثقافة» هي كلمات كبيرة تتبرّع لإعطاء الحزب وأعوانه هالة ليست لهم. الوقائع تخبرنا كل يوم، أننا أمام حزب يعيش على القضم: قضم التوازنات الطائفية، قضم المؤسسات الدستورية، قضم الفضاءات الحرة المدنية والثقافية. الوقائع تخبرنا أيضاً، أن جلّ ما نفعله في مواجهته حتى الآن هو تأمين حاجته اليومية للقضم، دون أن يطال أساسات التوازن، وأساسات النظام الدستوري، وأساسات الثقافة الحرة والحياة المدنية.