الرئيس ميشال سليمان يُصبح غداً الرئيس السابق. أنهى ولايته كما يجب أن ينهيها رئيس يؤمن بتداول السلطة وبالطرق الديموقراطية البرلمانية. وهذا ليس بالقليل. فأنْ تصبح «رئيساً سابقاً» ظاهرة «غريبة» بين «جمهوريات» «رئيس من الأبد إلى الأبد». ولا يكتسب عبارة السابق إلا عندما يدخل «الأبد» الأخير بعد وفاته. والرئيس السابق بولاية واحدة يعني أيضاً «ظاهرة» «لبنانية» أخرى في عصر الوصاية بعد تمديدين لرئيسين «سابقين»: الياس الهراوي وإميل لحود.. ومن مدّد ولاية الرئيسين ليس سوى نظام «الرئيس» من الأبد إلى الأبد، لا سيما وأن هذا «الأبد» ليس سوى «تأبيد» التوريث من «الأب» إلى الإبن إلى الحفيد. والتمديد لإميل لحود مثلاً فرضه نظام شمولي هو النظام البعثي العائلي (أسوة بالأنظمة العربية قبل الربيع العربي! أنظمة التوريث من حسني مبارك، إلى القذافي إلى علي صالح فإلى بن علي…). ولهذا نجد أن الرئيس لحود عندما فُرض التمديد له على مجلس النواب انكسر هذه المرة شيء أساسي في الهيمنة الشمولية. انعطب شيء في هذه الماكينة الجهنمية. بل نقول فتح التمديد درب الاحتجاج الكبير، والمعارضة الأبرز للنظام البعثي في لبنان… مما أدى بعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري إلى قيام ثورة الأرز وإخراج عسكر النظام السوري من هذا البلد… وبعدها انفتحت المغاليق وتحطمت جدران سميكة من الخوف واندلع الربيع العربي. رحل لحود وكأنه لم يأت. أدخل من باب «مغلق» وخرج من طاقة. كأنه آخر رئيس صاف من وصاية معروفة. إنه آخر رؤساء الوصاية السورية. بل نقول أن التمديد له عجّل بإظهار بوادر الضعف في الوصاية السورية.
على أن الرئيس سليمان وإن جاء «بإجماع» توافقي عربي وغير عربي، إلاّ أنه أنهى ولايته في تاريخ عربي جديد. كل شيء يهتز حوله. في سوريا. مصر. ليبيا. اليمن. أي بتناقضات عربية أحدثها الربيع العربي. الشعب السوري انتفض. وشهد نصف ولاية الرئيس سليمان… مراحل انهيار النظام السوري… وهشاشة تأثيره في لبنان… وتصاعد التدخل الإيراني في سوريا… ولبنان (وكذلك العراق). انكسرت وصاية… وحلّت محلها وصاية أخرى. خرج الجيش السوري من لبنان، وبقيت ميليشيات إيران وأسلحتها، وأوكارها (وحزبها) وكانتوناتها، وسعيها إلى السيطرة على هذا البلد، وتجاوز دور الوصاية إلى دور الإلغاء والضم والفصل. فدور الوصاية لا يُشبع الشره الإيراني، لأنه يريد أن يكون أكبر من وصاية… وأكثر من احتلال، أي يرغب في تغيير كيانية هذا البلد وطبيعته، ومواثيقه، ومكوّناته، ليكون على صورة ولاية الفقيه، قلباً، وظهراً، وحكماً، ورمزاً، وحكماً. فحزب الله، وهو الوكيل الحصري لشركات ولاية الفقيه «الجمهورية» وبضاعتها، يظن نفسه قادراً بسلاحه على أن يقوم بتحقيق الحلم الإمبراطوري الإيراني، بتدمير الدولة، ونسف الجمهورية، وقطع أدوار كل المؤسسات: أي إفراغ لبنان من كل حيوياته الثقافية والسياسية والعسكرية والأمنية والبرلمانية والحكومية، «ليعبئها» بجمهوريته الجاهزة في سلطته الشمولية على كانتونات مذهبية يتدرب فيها على كيفية تعميمها على كل لبنان. أنه المشروع «الأممي»، الذي تخطى «المشروع» الوصائي للنظام السوري. مشروع أممي إيراني يقابله مشروع إسرائيل الكبرى. يلتقيان لقاء «المتنافسين» في لعبة واحدة، وفي تعادل واحد، وفي انسجام الثنائيات الخاصة. ونظن أن 14 آذار إثر فوزها في الانتخابات النيابية، الأولى والثانية، حسبت أنها يمكن استدراج الحزب إلى الواقع اللبناني، ودخوله السياسي إلى اللعبة السياسية، ونتذكر أن بعض رموز 14 آذار طافوا على بعض البلدان الغربية، ليقنعوا رؤساءها ومسؤوليها بنيات الحزب «الطيبة»! وبأرومته اللبنانية، وبانتمائه إلى البيئة العمومية، لكن كل هذه المحاولات السيزيفية أحبطها الحزب نفسه. فلبنان ليس «وطناً» نهائياً، ولا كياناً ثابتاً، ولا حدوداً مرسومة… بل هو إشارة في خريطة، وحرف في أبجدية متكاملة. فهو جزء من كل. والكل ليس عربياً كما كان في الإيديولوجيات القومية ولكن جزء من شمولية إمبراطورية «أعجمية». فلا لبنان يكون لبنانياً. ولا عربياً. ولا انفتاحياً. لا شيء من كل هذا. وكل حوار يجري حوله، لإصلاحه، أو ترميم نظامه، أو «تقاسم» السلطات فيه، ليس سوى تمرير الوقت، أو محاولة لتيئيس اللبنانيين من أي حلم بسيادة، أو ديموقراطية، أو استقلال، او استقرار، أو حياة سياسية. الحوار «بدعة» بالنسبة إلى الحزب. ولهذا عندما شدد الرئيس سليمان على الحوار… واجهه الحزب بالانسحاب. وعندما أراد الرئيس سليمان توجيه الحوار إلى مناقشة الاستراتيجية الدفاعية، تنصّل الحزب من كل شيء، واعتبر أن «المقاومة» (السابقة) لا ترتبط لا بحوار، ولا بشورى، ولا بعلم ولا بخبر، ولا بجيش، ولا حكومة ولا رئاسة… ولا بدولة. مرجعيتها أبعد من الدولة، لأنها هي سلاح دولة أخرى، هي دويلة الحزب «المنضمة» أصلاً إلى جمهورية ولاية الفقيه (كما هي الحال في إعلان انضمام القرم إلى روسيا..). إذاً لا صوت يعلو فوق صوت المقاومة (المرحومة)، ولا استراتيجية تقيدها، ولا شريك معنوياً لها أو مادياً. وهذا بالذات ما يدل دلالة «مُبينة» على أن للبنان عدة حدود: حدود رسمتها دويلة الحزب، وأخرى رسمتها الدولة اللبنانية على أن تذوب الحدودان المحليتان.. في الحدود الإيرانية. أي الجمهوريتان الحزبية والرسمية لا بد أن تشكلا «ولاية» واحدة من ولايات إيران. على أن الرئيس سليمان حاول بما تيسر له من إمكانات، أن يُديم جلسات الحوار المقاطعة، وأبقاها حتى النهاية. لكن أي حوار يتم أحادياً! بطرف واحد يحاور نفسه. وبحزب لا يحاور إلا مرآته. وعندما مدّ الرئيس سعد الحريري يده إلى الحزب لبّى النداء بعد هزيمة. لبّى النداء لاسترجاع الأنفاس، وليس للانخراط في لعبة الدولة. والدستور. والحكومة. والبرلمان. والسياسة. لا! مدّها لكي يعضّ بها اليد التي امتدت إليه. ونتذكر 7 أيار. ونتذكر انقلاب القمصان السود. ونتذكر أيضاً تأييد الحزب لإعلان بعبدا قبل استدعائه إلى سوريا للمشاركة في قتل الشعب السوري، ثم يتنكّر للإعلان بعد تدخله، ويعتبر الإعلان مجرد «حبر على ورق»! لا حوار. لا التزام مواثيق. غدر. طعن في الظهر. نفاق. ابتزاز. هكذا تعامل الحزب مع الرئيس سليمان ومكوّنات السياسة اللبنانية. وعندما رفع الرئيس سليمان صوته مندداً بتدخل حزب إيران في سوريا، ومطالباً إياه بالعودة إلى لبنان من ضمن بند «النأي بالنفس» في إعلان بعبدا هبّ الحزب هبة الثائر على «تجاوز» الرئيس دوره: أرئيسُ جمهورية ويجرؤ على انتقاد الحزب الإلهي. حزب إيران. ألم يشهد مصير من تجرأوا على الوصاية السورية وإيران وحزبها وأي «منقلب» اغتيالي وقعوا فيه! لا! ثم ألسنة مرتزقتهم من صحف وصحافيين وإعلاميين (مفوترين!) على شن حملات على الرئيس واتهامه بأبشع التهم (كل ما فيهم يلقونه على سواهم! ما أطهر العاهرة عندما تحاضر بالعفاف، والعملاء عندما يكرزون بالوطنية!) والواقع، أن ما أقدم عليه الرئيس من تصريحات ومواقف سيادية، وديموقراطية، ودستورية، وتنديد بقصف الجيش السوري بعض المناطق اللبنانية، ألهب «سيادية» الحزب، و«استقلاليته» وحرصه على «حدوده»! ألم يذهب إلى سوريا لحماية مقام السيدة زينب! رائع! لكنه لا يحمي حدوده اللبنانية! فما أنبل هذا الحزب. وما أنصع وطنيته، وما أعمق شروشه الطحلبية المُقتلعة! لكن، جاءت مواقف الرئيس هذه، لتكون مناسبة للحزب، لتعميم هجومه على الرئاسة نفسها. على رئاسة الجمهورية نفسها. كموقع. وكدور دستوري. فهذا الحزب الذي يهدف في «استراتيجيته» الهجومية إلى ضرب الرئاسة الأولى، بعدما حاول ضرب الرئاسة الثالثة بانقلاب القمصان السود (من صنع إيراني!) وتعطيل البرلمان ودوره ورمزيته وشرعيته. إذاً ثلاثة عصافير برصاصة واحدة (حزب الله لا يحمل أحجاراً ولا حصى: بل مدافع ورصاص وصواريخ: يا لحلاوته!). وها هي الساعة أذنت ليحاول لعب مرحلة أساسية من تحقيق مراده: تعطيل انتخاب رئيس للجمهورية، لتكتمل دورة الفراغ الكبرى، وتصبح الحكومة في موقع إدارة البلاد. ويصبح المجلس الذي تنتهي مدة ولايته الممددة… أيضاً في هاوية الفراغ. آه! ما أجمل هذا الفراغ المثلث الزوايا! تتطلع جماعة الحزب باغتباط «الجنات» تجري من تحتها «الفراغات» في بلاد الأرز، ليقولوا «آه سبحانك أيها الفراغ الجميل. سبحانك أيتها الفوضى السوداء المضيئة بسوادها. سبحانك «أيها اللبنان. المنهار أمامنا نحن الجبابرة، القهّارين، الجبارين… لا شيء أمامنا… ووحدنا منتصبون، شاهقون، سامقون! ها هي الفرصة! صوتوا للأوراق البيضاء! أولاً، للنيات السود! صوتوا لأنفسكم في صناديق الفراغ، تطلع صوركم مليئة بالدهشة والنرجسية والمازوشية والسادية والوحول، والخراب! ما أجمل خراب البلاد التي ولدنا فيها «بالخطأ»، وها نحن نصحّحه لننقل جذورنا إلى وطننا الأصل إيران! إنها المرآة المشوهة.
ـ كيف ترى وجهي أمام هذه المرآة بعد الفراغ؟
ـ رائع! منهوش بجماليات الدُمّل.
ـ كيف ترى جبيني أمام هذه المرآة بعد الفراغ؟
ـ موحل من فرط الطهارة.
ـ كيف ترى مناخيري أمام هذه المرآة بعد الفراغ؟
ـ أطول من مناخير سيرانو دي برجراك!
ـ لكن كيف ترى مناخيري بموضوعية؟
ـ شميمها أعلى منخار مُخبر!
ـ كيف ترى لساني، لساني، أمام هذه المرآة بعد الفراغ؟
ـ ملوناً وقوياً ومتيناً كدواليب فايرستون!
ـ ويدي؟ ويدي…؟
ـ لا أرى يديك!
ـ كيف تراهما أمام المرآة؟
ـ آه! يديك أرخص من اللحوم الفاسدة!
ـ أقصد أصابعي!
ـ أطرى من حبوب الكبتاغون.
ـ وأذنيّ؟ هل ترى أذنيّ؟
ـ أرقّ من الأدوية الفاسدة!
ـ كل هذا في المرآة؟
ـ المرآة في كل هذا.
ـ وكيف تراني في المرآة بعد الفراغ؟
ـ قوياً. ساطعاً. مهيباً. كفتوى اغتيال!
ـ فقط!
ـ أكثر! قوياً. متماسكاً، مفوهاً، قاطعاً كرئيس، أو زعيم أو كقائد!
ـ رئيساً؟ زعيماً؟ قائداً؟
ـ أكثر! ظل فراغ عابر إلى فراغ أكبر منه!
إنها المرآة المدببة، أو الفارغة التي يملأها الحزب بأوهامه، وفانتاسماته، وميغالومياته. وجنون عظمته. رائع! إنها كلها أمامه اليوم. على مرآته طبعاً: رئيس الجمهورية شبح! والأشباح لا تظهر في المرايا. وظل، والظلال كالأشباح بلا وجود!
وها نحن اليوم، يقول الحزب، نريد أن نملأ المرايا بالفراغات. فالفراغ مرآتنا وحقيقتنا نعبئها بكل ما نريد. وها هي مَجلّوة. وها لبنان في مرآتنا: أصغر من نثرة في أظفارنا. وأضال من شعرة تسقط من شعورنا. لا شيء! لا شيء! وكل ما يقال اليوم، في البرلمان، والحكومة، وعند النواب، والناس، والدول، والأحزاب مجرد «كلمات كلمات كلمات» (عذراً يا شكسبير!).
الرئيس سليمان يغادر اليوم. تاركاً إرثاً غنياً، من المبادئ النبيلة، ورافعاً كل السقوف أمام كل من سيخلفه (هذا إذا ترك حزب الله مكاناً للخلافة في مراياه المكسورة!)، فقد أعاد الدستور إلى الدستور. و«الكتاب» إلى الكتاب. وموقع الرئاسة إلى السدة العالية. والحوار كضرورة. والسيادة كمقدس. والحرية والتنوّع والتعدّد إلى صميم المكوّنات. والحياة السياسية الحيوية، الديموقراطية، كأسس من أسس الوجود. والدولة كحاضنة للجمهورية، والجمهورية كحاضنة للكل.
جاء الرئيس سليمان بتوافق عربي دولي، وبشبه إجماع نيابي. وها هو يغادر القصر رافضاً كل أشكال السعي إلى تمديد أو تجديد، ليشق درباً بين الناس يحاول فيه أن يكمل في الميدان ما بدأه في كرسي الرئاسة!
جاء بتوافق «إيجابي» وتحاصره «توافقية» حزب الله، الأحادية، والمستأثرة، وكأنها ذريعة للقول أن الرئيس سليمان هو آخر رئيس استقلالي، سيادي، ودستوري! وهذه الجمهورية ستلحقها بجمهورية الموز والفستق الإيرانية!
نجح الرئيس في ترك إرث جمهوري، فهل ينجح حزب إيران في تدمير الجمهورية، من جمهورية الرئيس، إلى جمهورية بلا رئيس، أو رئيس جمهورية إلى رئيس بلا جمهورية؟
مرآتهم المدببة تقول نعم!
أما مرآة التاريخ فستبدو ذات يوم فارغة من حضورهم!
من مرآة الفراغ!
إلى فراغ المرآة!
بول شاوول