في زمن الاستحقاقات المؤجلة «بالتراضي» بين الاصدقاء والخصوم على الساحة اللبنانية، يتفرغ كل فريق سياسي لتعبئة اوقات الفراغ الرئاسية والنيابية الممددة الى اجل غير مسمى كل على طريقته الخاصة، بعضها «لزوم ما لا يلزم»، ولا يضر بالمناخات الوطنية العامة، وهو حال القوى المسيحية مجتمعة في 14 و8 آذار، ويلتقي معهم النائب وليد جنبلاط، والرئيس نبيه بري، وبعضها الآخر مؤذ ومحفوف بالمخاطر، وهو يرقى الى درجة المغامرات غير المحسوبة، ويتصدر هذا الخيار رئيس الحكومة العائد سعد الحريري فيما يتفرد حزب الله بخصوصية التحضير المتواصل لمواجهة المخاطر المحدقة بافعال مؤثرة عادة ما تكون لها انعكاسات مباشرة على الارض.
وفي هذا السياق، تلفت اوساط سياسية مطلعة الى ان غالبية القوى المؤثرة استسلمت للامر الواقع وتعمل على هامش مرحلة الانتظار لتأكيد حضورها السياسي وتسجيل مواقف لا تعدو كونها «فقاعات اعلامية» وفقا للقول المأثور انا اتكلم فانا موجود»، وهذه الحالة يمثلها بنجاح منقطع النظير رئيس القوات اللبنانية سمير جعجع الذي يخترع المناسبات لتكرار كلام لا «يثمن ولا يغني عن جوع»، وفيما اختارت الكتائب الانكفاء، يمارس التيار الوطني الحر نوعا من «الرياضة الروحية» ويبتعد عن «الصخب» الدائر، رغم «المتركاج» المتواصل على ما حدث في عرسال من اخفاقات، «لغاية في نفس معلومة». أما الرئيس نبيه بري فيمارس هواية «الفرجة» حينا من بعيد واحيانا عن قرب بعد ان استسلم للامر الواقع، بعد ان ادرك استحالة اخراج «الارانب» من «القبعات» في هذه المرحلة، فيما «صديقه اللدود» النائب وليد جنبلاط يملأ وقته بالبحث عن «مظلات» حماية لدوره وطائفته، ويوازن في العلاقة بين «قطبي الرحى» لدى الشيعة والسنة، وشعاره في هذه المرحلة «لا تنام بين القبور ولا تشوف منامات وحشة».
في هذا الوقت تضيف الاوساط يعد رئيس تيار المستقبل سعد الحريري الاكثر صخبا في حراكه في زمن تقطيع الوقت، وهذا امر طبيعي في سياق التعويض عما فاته اثناء غيابه عن قواعده الشعبية والسياسية، وبحسب تلك الاوساط ثمة الكثير من الامور تغيرت وبدأ الحريري يشعر بحجم الصداع الذي ينتظره، فثمة الكثير من «الرؤوس الحامية» في تياره بحاجة الى «تبريد»، فغياب «الزعيم» افرز «زعامات» «وانبياء» وهؤلاء يعتبرون انفسهم «ام الصبي» التي حافظت عليه في احلك الظروف عندما اضطر «الوالد» الى الغياب، كما ان اكثر ما لمسه «زعيم المستقبل» يتعلق بانخفاض منسوب الثقة لدى جمهور لم يعد يرى في «الاعتدال» وصفة رابحة في مواجهة المخاطر، كما لم يعد يثق ان هذا النهج قادر على اخراج السنة من «مظلوميتهم».
هذه التحديات لا يمكن ان تحل فقط «بالفلوس»، على حد قول الاوساط فهذا «الدواء» يساعد على «الشفاء» في موسم الانتخابات، لان تأثير مفعوله قصير المدى، والحريري «مش «فاتح «بنك»، وسقف الصرف لديه محدود «بالمكرمة» السعودية الخاصة على هامش «مكرمة» الجيش والقوى الامنية، وشراء «وجع الراس» بالاموال سيفتح على تيار المستقبل بابا لن يستطيع اقفاله بسهولة واذا حاول ذلك سيخسر كل ما دفع ثمنه، ونموذج عرسال هو اول الغيث، فـ «هبة» الـ15 مليون دولار جاءت بمثابة «شراء» سكوت الاهالي على تركهم لمصيرهم بعد ان حظيت سياستهم تجاه «الثورة» السورية بدعم تيار المستقبل، وعند خروج الامور عن السيطرة وجدوا انفسهم منبوذين ومتهمين بالخروج عن القانون، ولولا وساطة هيئة العلماء المسلمين ودخولها على الخط لكان تيار المستقبل اول المتورطين حتى النهاية في معركة تصفية كل تلك القوى التي ساهم في خلقها، ورد فعل الناس في عرسال عندما رفضوا استقبال المساعدات المرسلة من تيار المستقبل كان بمثابة «ناقوس الخطر» الذي دفع الحريري الى الاندفاع نحو فتح الخزنة من جديد بعد ان وجد ان لا كلام يمكن ان يفيد او يجدي. وتسأل الاوساط ماذا سيفعل الحريري مع «المتمردين» في الشمال؟ هل سيقبل اهل عكار ان تصرف الاموال لمن «يشاغب» اكثر؟ وهل سيقبل من تحمل وزر سياسات المستقبل الخاطئة في طرابلس وان يدخل رئيس بلدية عرسال علي الحجيري الى بيت الوسط دخول الفاتحين، وهو ملاحق بمذكرات توقيف امنية، فيما اولادهم اما هاربون او في السجون، لان الحريري ارتأى ان دورهم قد انتهى؟
كل هذه التحديات ستدفع الحريري الى مزيد من التطرف مع الطرف الاخر على حدّ قول الاوساط لكسب ود جمهور متعطش لهذا الشعار، كما ان عدوى «رشرشة» الاموال ستنتقل دون ريب الى مناطق أخرى، والا سيبدا الصراخ العالي بالارتفاع، ولكن هل ستجدي هذه السياسة نفعا في تقوية تيار «الاعتدال» في الشارع السني؟ بالطبع كلا. ففي غياب المشروع المتكامل والواضح وفق اسس قائمة على مراجعات جدية لاخطاء الماضي، لن يتمكن رئيس تيار المستقبل الا من «تسكين» اوجاع هؤلاء فاستراتيجية «ترشرش» لن تكون مجدية فعندما تجف الاموال سينصرف هؤلاء عنه وسيلتحقون بمن سيدفع اكثر.
ووفقا لتلك الاوساط، لا ينتهي حراك الحريري عند هموم «بيته الداخلي»، فهو لا يتوانى عن البحث في كيفية الحاق الاذى بحزب الله، وهنا يدخل الاستثمار السياسي المحلي لمعركة عرسال وهو بدأ يأخذ منحا شديد الخطورة بعد المعلومات التي تشير الى وجود محاولات «مريبة» لزرع بزور الشقاق بين قائد الجيش جان قهوجي وقيادة حزب الله. فرئيس الحكومة الاسبق اوحى لقائد الجيش انه وفريقه السياسي باتوا بعد ما حصل في عرسال على استعداد لتسويق اسمه لرئاسة الجمهورية لكن العقبة الرئيسية تتمثل برفض حزب الله لترشحه، ودعاه للتواصل مع قيادة الحزب لاقناعها بتبنيه، وعندها لا مشكلة لدى تيار المستقبل وقوى 14 آذار بانتخابه.
طبعا يعرف قهوجي خطورة هذه «اللعبة» تؤكد الاوساط ولا يبدو ان رد فعله كانت على مستوى المأمول من قبل محدثه، فهو يعرف ان قيادة الحزب ليس لديها اي موقف سلبي تجاهه شخصيا، لكنه يعرف جيدا ان الاولوية لدى حزب الله هي لتبني ترشيح الجنرال ميشال عون، واذا تخلى عن ذلك فلا مانع عند الحزب من ان يكون قائد الجيش من ابرز المرشحين، وليس مرشحا وحيدا، لان الكلمة الفصل ستكون عندها ايضا للجنرال عون. اذا لا جديد في الموقف. وما اوحى به الحريري ليس جديا، وتيار المستقبل وقوى 14 آذار لديها الكثير من علامات الاستفهام حول قائد الجيش «المتعاون جدا» مع حزب الله، وما طرحه رئيس المستقبل لا يمكن وضعها الا في خانة المناورة السياسية في محاولة لافتعال ازمة بين قهوجي وحزب الله في توقيت شديد الحساسية بالنسبة للجميع. فهل هكذا «تورد الابل»؟
الجواب طبعا لا، تقول تلك الاوساط، فالتعويل على حصول ازمة بين المقاومة والجيش احتمال غير قائم لاسباب كثيرة لا مجال لسردها، لكنها اسباب جوهرية وعميقة تتجاوز كل «الزواريب» المحلية الضيقة، لكن مجرد وجود هذا التفكير «الضيق الافق» لا يبعث على التفاؤل ويثير الريبة. لكن على الضفة الاخرى ثمة نمط آخر من التفكير والاولويات ليس ضمنها الخوف على مستقبل العلاقة مع المؤسسة العسكرية، فلدى قيادة حزب الله اجندة عمل اخرى لمواجهة جادة للتيار التكفيري، تؤكد الاوساط ففي الداخل ثمة تفعيل للعمل الاستخباري لملاحقة الشبكات التخريبية ومنعها من النفاذ الى الساحة اللبنانية، وعلى الحدود لا تراجع عن معركة تحرير جرود عرسال ومحيطها، والتطورات الاخيرة لم تغير جدول الاعمال، فهذه المنطقة لن تكون ضمن اي صفقة محلية او اقليمية، فالقرار نهائي ولا تراجع عن اقفال ملف هذه الجبهة والتنسيق على قدم وساق مع الجيش السوري للشروع في تنظيف ما تبقى من مواقع يتحصن فيها المسلحون هناك، الجميع في اجواء هذا القرار وهم يعرفون ان المسألة ليست الا مجرد توقيت يحتفظ به المجلس الجهادي في حزب الله، وقيادة «التكفيريين» تعرف ذلك، ومن هنا يمكن فهم خطوة اختطاف جنود قوى الامن والجيش علَ ذلك يؤخر الحسم.