نموذج “غزة” في مقابل… “الغزوات”
“حزب الله” و”حماس”: فلسطين تجمع ما فرقته سوريا
أبعد من الجانب الميداني والتفاصيل العسكرية المباشرة، أعاد العدوان الجديد على غزة تكريس أولوية الصراع مع العدو الاسرائيلي، باعتبارها أولوية استراتيجية لا تزال تملك قابلية التقدم على كل العناوين التي تسللت خلال السنوات الماضية الى الصفوف الامامية لاهتمامات العالم العربي وهمومه.
وربما كان العرب يحتاجون الى هذه الملحمة الجديدة للشعب الفلسطيني في مواجهة الحرب الاسرائيلية، كي يتخففوا قليلا من أثقال الصراعات الجانبية التي استنزفت طاقاتهم ودماءهم، وحرفت وجهة سيرهم، فأضاعوا الطريق وأهملوا فلسطين، القادرة وحدها على الجمع بدل القسمة، وصولا الى صناعة الربيع الحقيقي المنتظر.
ومع سقوط عشرات الشهداء من المقاومين والمدنيين في غزة، تكون الشهادة قد استعادت بريقها، في الساحة الصح، وفي مواجهة العدو الاصلي، بعدما كادت تُشوَّه مؤخرا، تحت وطأة الفتاوى والاجتهادات المغلوطة التي أطلقت ثقافة التكفير وغررت بشبان في مقتبل العمر، لا يترددون في تفجير أنفسهم “بمن حضر” من المدنيين هنا وهناك، في حين ان الفلسطينيين يحتاجون الى كل طاقة إضافية لمواجهة الاحتلال.
وإذا كانت تنظيمات طارئة مثل “داعش” و”النصرة” قد ملأت “الفراغ” واستقطبت الاهتمام خلال الفترة الاخيرة، على وقع التفجيرات العبثية والغزوات “الضالة”، فان ملحمة غزة جعلت “كتائب عز الدين القسام” و”سرايا القدس” و”كتائب الاقصى”، وغيرها من تشكيلات المقاومة، تتقدم الى الواجهة والضوء مجددا، بعدما كادت تسقط من قاموس التداول في زمن يراد فيه ان يحل التحوير مكان التحرير.
صحيح، ان كلفة المواجهة في غزة كبيرة حتى الآن، لكنها تظل أقل بكثير من كلفة الحروب المذهبية التي بدأت طلائعها تلوح في العديد من الساحات العربية، ومن شأنها – لو أخذت مداها – ان تأخذ في طريقها القضية الفلسطينية أولا، وان تترك آثارا مدمرة على امتداد المساحة من المحيط الى الخليج.
وليس خافيا، ان اسرائيل وجدت في واقع المنطقة الممزق، وفي انشغال الكثير من الدول العربية بالازمات الداخلية، “بيئة ملائمة” لشن العدوان الحالي، مطمئنة الى ان الانظمة التي لم تخرج بعد من مخاض التحولات هي اضعف من ان تستطيع خلط الاوراق او صنع مفاجآت.
وبالتأكيد لم تكن اسرائيل لتجد توقيتا أفضل من اللحظة الراهنة لتحاول الاستفراد بغزة، فها هي سوريا التي تشكل حجر زاوية في محور المقاومة والممانعة تعاني من صراع منهك استهلك قدراتها، وها هو “حزب الله” الذي يمثل رأس حربة في مواجهة اسرائيل اضطر الى زجّ جزء من قواه في الحرب السورية، وهذه مصر- الأم لا تزال تلملم ذاتها وتخوض معركة مع الارهاب، وهذا العراق – الخزان يستغرق في نزاعات مذهبية ويواجه تحدي “داعش”، وهذه ليبيا واليمن والبحرين والسودان تتخبط في مشكلاتها وقضاياها.
ومع ذلك، وبرغم هذا الواقع المزري، جاء العدوان الاسرائيلي لينفض الغبارعن فكرة المقاومة التي كادت تختنق تحت الركام المذهبي، وليضخ في عروقها أكياسا من الدم النظيف، فجددت القضية الفلسطينية الجامعة خلاياها، وتفوق التناقضُ الرئيسيُّ مع العدو على التناقضات الثانوية المتراكمة ولو الى حين، ونفضت حركة “حماس” عنها غبار صراع المحاور العربية لتنشط مرة اخرى في موقعها البديهي على خط الجبهة الاصلية في فلسطين المحتلة.
ويبدو ان العدوان الاسرائيلي على غزة سيدفع في اتجاه تسريع وتيرة التقارب بين “حزب الله” وحركة “حماس” اللذين كانت تربطهما علاقة تحالفية وثيقة في السراء والضراء، قبل ان تفرقهما الازمة السورية الى هذا الحد او ذاك، عندما قررت “حماس” ان تقف على ضفة المعارضة فيما اختار الحزب التموضع على ضفة النظام… فهل تنجح قضية فلسطين في لمّ الشمل الذي بعثره تباين الخيارات في سوريا؟
من الأرجح ان الحرب الجديدة على الشعب الفلسطيني ستفرض مراجعة للحسابات، على قاعدة ان هناك شراكة إلزامية ضد العدو الاسرائيلي المشترك، سبق لها ان اثبتت جدواها عبر تجارب الماضي، علما ان هوية بعض الصواريخ التي اصابت المدن الاسرائيلية بينت انه لا يزال يوجد في حساب محور المقاومة والممانعة رصيد مشترك مقبول، ولعله يجدر التوقف في هذا الاطار امام تأكيد أحد قياديي “حماس” بأن العلاقة مع “حزب الله” وإيران هي أفضل مما يظنه الكثيرون.