ربّما فوَّت الموارنة فرصة تاريخيّة قد لا تتكرَّر عندما تغلّبت مصالحهم الخاصة على المصلحة العامّة، وحالت كيديّاتهم دون انتخاب رئيس. وفي حضرة الفراغ تتزاحم الأسئلة المقلِقة حول الحاضر والمستقبل والمصير.
كان من الطبيعي أن يجتمع مجلس الوزراء للبحث في استخدام صلاحيات رئيس الجمهوريّة، لكنّ الاستثمار الخارجي يعود للبحث في التفاصيل، وليدخل من الكوّة المذهبيّة، ليحوّل مجلس الوزراء مجلساً مِلّياً، وليوحي بأنّ التوازن السياسي بين مكوّناته لا يعكس توازناً ميثاقيّاً عندما تصبح صلاحيات الرئيس الماروني مطروحة على بساط البحث، في عمليّة «حصر إرث» تبدو مكلِفة ومعقّدة إذا كان المستفيد الأوّل حكراً على السنّي كرئيس لمجلس الوزراء، أو على الشركاء الآخرين في المنفعة، أي الشيعي والدرزي، بالإضافة إلى المكوّنات المسيحيّة الأخرى.
وما نتجَ عن الفراغ حتى الآن يمكن وصفه بالكثير والخطير. من حواضره نزعة نحو الفرديّة والتفرّد، فعاليّات سياسيّة وازنة تنطوي على نفسها، تُعيد النظر في حساباتها، تُدقّق بأحوالها، وتجمع أوراق القوّة لديها تمهيداً للتصرّف بما يتوافق ومصالحها، فضلاً عن وصول الحوار الوطني إلى مأزق.
ويوماً بعد يوم يبتعد الإستحقاق الرئاسي عن جدول الأولويات. فتَح «حزب الله» ملفّ المبعدين إلى إسرائيل، وفتح وزير الداخليّة نهاد المشنوق ملفّ النزوح، وفتحَت روابط المعلمين ملفّ الإمتحانات الرسميّة، وفتحت وزارة الطاقة ملفّ الكهرباء والتقنين، استقبالاً للخليجيّين الذين وعدوا بالعودة هذا الصيف، وترويجاً للحملة الدعائيّة التي يقودها وزير السياحة ميشال فرعون لتنشيط السياحة والإصطياف.
وثمّة اقتناع عام بأنَّ الحوار، إنْ حصل، سيبقى غير ذي شأن، لأنّ القرار ليس عند أيّ طرف بمقدار ما هو عند دمشق، وطهران، والرياض، وباريس، وواشنطن، وعواصم دول أخرى وفق مقتضيات مصالحها، وإنّ اللبنَنة كان الغرض منها، ولا يزال، تعرية الطبقة السياسيّة، وكشف هزالها، وعدم قدرتها على اتّخاذ القرار، وحتى على مقاربته، في مَعزِل عن التأثيرات الخارجيّة المتحكّمة بمجريات الأمور، والدليل أنّ معظم الفاعليات في «8 و14 آذار» تلتقي على القول إنّ الخارج لو كان يريد فعلاً رئيساً للجمهورية، لأمَّنَ البيئة المؤاتية لانتخابه، أمّا وإنه لم يفعل، فهذا ترجمتُه أنّه يريد الفراغ حتى إشعار آخر.
وهذا الإشعار الآخر لن تكتمل مواصفاته، إلّا عندما تكتمل المواصفات المطلوبة لضمان الأقلّيات في محيط الأكثريات، سواءٌ في العراق، أو سوريا، أو لبنان، أو الأردن، أو فلسطين. أقلّيات لها جذورها التاريخيّة، وفرَضت حضورَها في هذه الحقبة التاريخيّة، وبالتالي لا يمكن الإقرار بإسرائيل دولة لليهود، إلّا بعد الإقرار بمصير الفئويات الأخرى، إلى هويّات وثقافات مختلفة ضمن أنظمة وكيانات بدأت تتفكّك وتنهار مع الربيع العربي، لتقوم أنظمة وكيانات جديدة عندما يبلغ الربيع النهايات المرسومة له.
وفي معشر الديبلوماسيّين من يقول إنّ المواعيد الافتراضيّة التي تطلَق لإنجاز الإستحقاق في أيلول، أو في تشرين، أو قبل نهاية السنة، إنّما هي مواعيد وهميّة لسببين جوهريّين:
الأوّل، إنّ الديموقراطيّة التوافقيّة أصبحت معتلّة وربّما تلفظ أنفاسَها، أو وصلت إلى الرمق الأخير، في ظلّ فائض القوّة الذي يملي الأجندات، ويُحدّد الخيارات نيابةً عن الدولة ومؤسساتها، وأيضاً في ظلّ الكيديات التي دفعت برؤساء الطوائف وفاعلياتها إلى الإستقواء بالخارج على الداخل حفاظاً على مكتسباتها.
الثاني، إنّ المسيحيين، بفضل أنانية قياداتهم، وجنون كيدياتهم، قد خسروا الصلاحيات مع اتّفاق الطائف، وخسروا الدور مع اتّفاق الدوحة، والآن يخسرون المنصب. والنقاش على مستوى مجلس الوزراء حول طريقة تطبيق صلاحيات رئيس الجمهوريّة، إنّما هو نقاش حول «حصر الإرث»، وتوزيع التركة بالتساوي.