صحيح أنّ الأسباب الموجبة لوقوع الحكومة الحالية في شرك التعطيل الكامل لا تعدّ ولا تحصى، غير أنّ المصالح السياسية ما زالت حتى اليوم تشكّل «جدار دعمٍ» يمنع سقوطها في الوقت الحالي. هذه المصالح ليست صورة طبق الأصل بين مكوّنات مجلس الوزراء.. الكلّ يغني على ليلاه، ويلتقون «على مقام» واحد هو: الحفاظ على حكومة تمّام سلام.
قد يكون ما حصل بشأن ملفّ «الجامعة اللبنانيّة»، بعد أن اتفق المعنيون على منهجيّة للعمل في ظلّ غياب رئيس للجمهوريّة، أقوى دليل على ذلك. كلّ ما دار ويدور في السرايا الحكومية يشي بأنّ ارتدادات الملفّات السياسية والاقتصادية تهزّ الحكومة بقوّة، ولكنّها لا تقع.
إستراتيجية صمود الحكومة في وجه الظروف القاهرة، باقية إلى أمدٍ غير مسمّى. الجميع يريدها واقفة «على قدميها»، لا سيّما «تيار المستقبل» و«حزب الله». فمنذ أن تألّفت «حكومة ربط النزاع»، و«التيار الأزرق» يشعر أنها مكسبٌ لا يمكن الاستغناء عنه، فرئيسها هو تمّام سلام الذي سمّته وكان يحضر اجتماعات «14 آذار» ومعتنق مبادئها. وهو «الرجل الوسطيّ» الذي ما إن سمع بلقبه «رئيساً مكلّفاً» يسبق اسمه حتى حطّ في السعوديّة، وفي مقر سعد الحريري تحديداً.
الأمر لا يتوقّف عند رئيس الحكومة بنظر «المستقبل»، بل يتمدّد إلى مكامن القوّة في حكومة الـ24 وزيراً التي تمكّن فيها الحريري أن يقتنص «الحقائب السياديّة» (كالداخلية والعدل). واستطاع فيها أيضاً أن يمنح حلفاءه وزارات أساسيّة كالاتصالات والاقتصاد..
وهي الحكومة نفسها التي ارتأى «الزرق» المشاركة فيها، بالرغم من الانتقادات العلنيّة التي وجّهت لهم. حينها أحدث رئيس «التيار»، الساكن خلف الحدود، «صدمة إيجابيّة» لم تكن سهلة عليه شعبياً. أن يقوم «المستقبليون» بتصعيد دراماتيكي في وجه «حزب الله» ويعلنون «التعبئة الجماهيريّة» يومياً ضدّه، ثم بقدرة قادر يدخلون «القفص الحكومي» ويجلسون على الطاولة ذاتها مع «حزب الله»، يدلّ كم تكبّد «التيار» شعبياً حتى يصل إلى ما هو عليه اليوم.
وبالتالي، فإن «المستقبل» يمسك بحكومته «على كفّه»، لأن إجهاضها بعد خمسة أشهر من تأليفها يعني حكماً أن يشهر «الزرق» فشلهم على الملأ ويتراجعون عن المكتسبات التي حصلوا عليها.
في المقابل، يحاول «حزب الله» بكلّ ما أوتي من قوّة أن يكون «الخيمة الواقية» لـ«حكومة المصلحة الوطنية». الحزب الواقف على خطّي التماس بين جبهتين: الإسرائيليّة والسورية، حساباته واضحة للفترة المقبلة وتتلخّص بكلمة «ستاتيكو». ما يعني أنّه مرتاح للجمود الحاصل ووضع الحكومة الحالي.
ليس من مصلحة «حزب الله» أن يخوض استحقاقات كبرى تخلط الأوراق الداخليّة وتقلب الأوضاع رأساً على عقب وتزيح نظره عن العدو الإسرائيلي وشبح المتطرفين. يحارب «الحزب» كي يبقى لبنان بعيداً عن الزلازل السياسيّة والأمنيّة التي تنقل النار إلى عقر داره وتقسم ظهره.
أداء محمّد فنيش يدلّل بالإصبع على خشية حزبه من استقالة الحكومة. الوزير الذي يتحوّل في كثير من المرّات إلى «إطفائي مجلس الوزراء»، هو من تدخّل في الجلسة الأخيرة وفضّ النزاع الذي حصل بين الوزيرين الياس بو صعب وسجعان قزّي بشأن ملف الجامعة اللبنانيّة قبل أن يرحّل الملفّ إلى الجلسة المقبلة.. فنيش يؤدي بأمانة دور «حزب الله».
في المقابل، ليس «الحزب» وحده الذي يعتقد أن «الستاتيكو» هو السلاح الأنجع لتقطيع المرحلة في ظلّ التطوّرات الإقليمية الخطيرة والمتسارعة، بل يلاقيه وليد جنبلاط وسليمان فرنجية قبل منتصف الطريق. رئيس «اللقاء الديموقراطي» يريد أن يجنّب الحكومة «الكأس المرّة»، تماماً مثل عدم حماسته لإجراء الانتخابات النيابيّة، حتى لا تتغيّر المعطيات الحاليّة.
أما أبرز «المشاغبين» في حكومة تمام سلام فهم وزراء «التيار الوطني الحرّ». وبالرغم من كلّ العصيّ التي يضعها هؤلاء في دواليب الحكومة، إلا أن ذلك لا يعني أنهم لا يريدونها. بالنسبة لـ«العونيين»، فإن الحكومة هي مدخل طبيعي قد يمكّن ميشال عون من الوصول إلى رئاسة الجمهوريّة.
يناوش وزراء «التيار» في مجلس الوزراء. وبانتظار أن يحرّكوا «البيدق» نحو «مربّع بعبدا»، يعمل هؤلاء على إثبات فاعليّة وزاراتهم ونجاحهم في المكتسبات التي حصلوا عليها.
جبران باسيل يبذل جهوداً مكثفة في حماية لبنان من «خطر النازحين السوريين»، خطر دخولهم وإنجابهم وتنقلّهم.. تماماً كالجهود التي يبذلها في سبيل تنظيم المؤتمرات التي تجذب المغتربين. «الوزير السندباد» يسافر من بلد إلى آخر «لمصلحة لبنان».
ولهذا السبب بالتحديد ـ من دون غيره من الأسباب ـ تكبّد الوزير العوني مشقّة السفر إلى البرازيل من دون أن تعيقه «زحمة المونديال» بغية «شدّ عصب البرازيليين» المتحدرين من أصول لبنانيّة.
وبعد حوالي الـ24 ساعة من انتهاء «المونديال»، أنهى وزير الخارجية والمغتربين مهمته الصعبة في برازيليا.. ثمّ عاد إلى لبنان.
صحيح أن الكثيرين عابوا على باسيل أنه لم يصدر بياناً يدين فيه العدوان الإسرائيلي على غزّة، غير أن «معاليه» اختتم لقاءاته الهامّة في البرازيل حتى يتفرّغ لصياغة بيان إدانة بعد أسبوع من وقوع العدوان. لا أحد يريد مقارنة باسيل بسلفه الوزير عدنان منصور، ومع ذلك تكون المقارنة في بعض الأحيان حاضرة في الأذهان.
إذاً، لا يبدو باسيل مهتماً لأمر إسقاط الحكومة، بل على العكس هو يبذل جهوداً لإنجاح وزارة الخارجية. في حين يوحي وزير الطاقة والمياه آرتور نظريان بأنه يعمل بكدّ، إلا أن «الصواعق» في موضوعي الكهرباء والمياه تواجهه من كلّ حدب وصوب، حتى يكاد نظريان يبقى في عيون الكثيرين «وزيراً جديداً» من دون أي تقدّم يذكر في هذين الموضوعين، بل على العكس تراجع مخيف في الخدمات.
أمّا وزير التربية والتعليم الياس بو صعب، فيحاول صياغة تفاهمات يمرّر بها الملفات المختصّة بوزارته كسلسلة الرتب والرواتب وملف «الجامعة اللبنانية».
حتى الساعة، «سياسة التمرير» المعتمدة في الرابية لا تجدي نفعاً، من ملف السلسلة مروراً بـ«الجامعة» ووصولاً إلى الاستحقاق الرئاسي. «العونيون» لا يريدون إلا الاعتماد على «توربو» الحياة السياسية: «تيار المستقبل» و«حزب الله»، من دون فتح قنوات تواصل أخرى لحبك «نهايات سعيدة» لكلّ الملفّات التي يريدون إنجازها.
الأدلّة على ذلك كثيرة، وقد يكون أوّلها طلب الرئيس سعد الحريري من ميشال عون الجلوس مع مسيحيي «14 آذار» لإقناعهم بترشّحه إلى رئاسة الجمهوريّة، في حين أن «الجنرال» لم ولن يفعل ذلك، لعدم اعترافه بهم ولاعتباره أن علاقته بـ«حزب الله» و«تيار المستقبل» هي «المجد بطرفيه» الذي يحوّله إلى «مرشح توافقي».
هذا الأمر ينطبق أيضاً على موضوعي السلسلة و«الجامعة» اللذين اصطدما بعوائق الأفرقاء الآخرين، وكذلك على التواصل المقطوع نسبياً بين عون وجنبلاط أو تلك الاتصالات التي تعود فجأة إلى الحياة بين الرئيس نبيه بري وعون.
وبالتالي، يكبّل وزراء «التيار الوطني الحرّ» الحكومة، إلا أنهم لن يسمحوا لها أن تسقط سقوطاً مدوياً لإثبات قدراتهم.
وإذا كان عون يناور من أجل الرئاسة، فإن الرئيس بري هو الآخر يلعب «في الوقت الضائع» داخل الحكومة. الأخير يحاول أن يضغط في السرايا حتى تفرج في ساحة النجمة، إذ أنه يريد جرّ الأفرقاء السياسيين للتوجّه نحو مجلس النوّاب لإقرار وتشريع الكثير من القوانين المعلّقة.
لكن خطوات رئيس المجلس ليست سوى تكتيك. أما في الاستراتيجيا، فيبقى همّه منصبّاً على الحفاظ على الحكومة. لهذا السبب كان معترضاً على منهجيّة العمل التي اقترحها تمّام سلام، معتبراً أنها تكبّل الحكومة من الداخل.
بهذه الحسابات، لن يتبقّى سوى تمّام سلام و«الكتائب»، والاثنان معاً يدركان أن ما أمّنته لهما «حكومة المصلحة الوطنية» قد لا يتكرّر بعد اليوم. الأوّل حصل على لقب «دولة رئيس» مع وزيرين محسوبين عليه، فيما حزب «الله ـ الوطن ـ العائلة» كان له الحظّ الأكبر (بامتناع «القوات» عن المشاركة) في الحصول على ثلاث حقائب.