أقرنت حكومة الرئيس تمام سلام شعارها بالواقع العملي، فهي بالفعل حكومة «المصلحة الوطنية» بامتياز وهو الشعار الذي رفعه منذ اليوم الأول لتكليفه وطبّقته حكومته بفعل إرادة جامعة بين مكوناتها على ضرورة إعطاء اللبنانيين فسحة من الأمل كادوا يفقدونه، فكانت أن انطلقت في عملها على تثبيت الأمن وتعزيز الهدوء والاستقرار، والانكباب الجاد والسريع على إنجاز تعيينات في الإدارة العامة، كانت تبدو في الفترة الأخيرة وقد اعتراها الشلل بفعل غياب المسؤولين عن مواقع القرار الإداري، وهو ما ليس مقبولاً لتسيير عجلة الشؤون العامة للمواطنين.
إن السرد الواقعي للإنجازات التي تمكّنت الحكومة من تحقيقها في غضون أقل من شهرين على نيلها الثقة، يبيّن الفارق الحقيقي والشاسع بينها وبين حكومة الرئيس نجيب ميقاتي التي رفعت شعار «كلنا للعمل» ولم تعمل إلا على عدم تحقيق أي عمل يذكر طيلة ثلاث سنوات، على الرغم من أنها كانت حكومة اللون الواحد وكان بإمكانها لو أنها لم تنشغل في حلّ الخلافات بين مكوناتها، أن تترك أثراً يذكره اللبنانيون بالخير، لكن ذلك لم يحصل.
في الأمن، وهو الخبز اليومي والهم الأكبر الذي عاشه ويعيشه المواطنون منذ العام 2005، لا يمكن سوى الاعتراف بأن الهدوء الذي ينعم به البلد اليوم، جعلهم ينسون مآسي الاغتيالات والتفجيرات المتنقلة التي لم تترك منطقة عزيزة من لبنان إلا و«طرقتها»، ناهيك عن الانعكاسات النفسية التي يخلّفها الاضطراب الأمني على الوضع الاقتصادي بشكل مباشر. ربّ قائل بأن الظروف الإقليمية، والقرار الدولي بضرورة تجنيب لبنان الانزلاق إلى أتون الحرب السورية ساهم في تعزيز الأمن وتعميم الهدوء في الداخل، وهو قد يكون محقاً في ذلك، لكن السؤال هو ما الذي تغيّر منذ شهرين إلى اليوم على صعيد القرار الدولي، والحرب الدائرة في سوريا لم تترك بشراً ولا حجراً منذ آذار 2011؟ ألم يكن قرار ضبط الأمن خارجياً عندما كانت السيارات المفخخة تستهدف الضاحية الجنوبية وتقتل مواطنين، وتجول وتصول في أرجاء البقاع متحيّنة الفرصة المناسبة لتعكير صفو المنطقة وأهلها؟ ألم يكن هذا القرار خارجياً عندما أفتى من أفتى بضرورة تفجير الحقد الأعمى بمصلّين أتقياء وهم داخل مسجدي «التقوى» و«السلام» في طرابلس؟
لقد وضعت الحكومة عبر وزارة الداخلية «خطة أمنية» نفّذتها القوى الأمنية بالتعاون مع الجيش اللبناني في طرابلس، وأنهت ظاهرة «الجولات القتالية» التي بلغت العشرين بين أبناء المدينة الواحدة، ومنعت وقوع فتنة مذهبية كانت أنيابها مكشّرة وتستعد لالتهام الأخضر واليابس ليس في الفيحاء وحسب، بل كانت لتطال كل البلد ولم يكن لتسلم منه أي جهة بعينها. ثم امتدت الخطة لتصل إلى منطقة البقاع حيث تمكنت الدولة من وضع حدّ لمسلسل الخطف مقابل فدية أبطاله من العصابات المحلية، هذه الظاهرة التي تفشّت في السنوات الماضية أثناء ولاية حكومة «اللون الواحد»، وذلك باعتقال أخطر أفراد هذه العصابات ومداهمة أماكن تواجدهم، كما وفي مداهمة مستودعات سيارات مسروقة، ويأمل اللبنانيون أن تستمر هذه الخطة بالتمدّد في جميع المناطق اللبنانية لتعيد إليها ثقة المواطنين بالدولة التي هي ملاذهم الأول والأخير ولا شيء ولا أحد سواها.
وفي الاقتصاد، ورغم أن الوضع الأمني المتردّي الذي أورثته حكومة ميقاتي إلى حكومة «المصلحة الوطنية» والذي كان سبباً مباشراً في المقاطعة العربية الخليجية للسياحة في لبنان، إلا أن بشائر عودة السياحة إلى نشاطها بدأت تلوح في الأفق مع نجاح الخطة الأمنية، وبدأ الإعلان عن المهرجانات السياحية الصيفية التي يشكّل السياح الخليجيون عمودها الفقري، كما بشّرت وزارة السياحة بقرب الإعلان عن رفع التحذير الذي وضعته دول الخليج العربي على مواطنيها بتجنّب السفر إلى لبنان، وعودة السفير السعودي علي عواض عسيري إلى بيروت التي غادرها بسبب التفلّت الأمني في عهد حكومة ميقاتي، إحدى هذه البشائر. إن الاقتصاد الللبناني القائم على السياحة وقطاع الخدمات شهد أسوأ أعوامه بالنسبة للعديد من الشركات والمؤسسات السياحية التي أقفلت ابوابها في عهد الحكومة السابقة غير المأسوف على رحيلها، والمستثمرون في هذا القطاع يأملون من حكومة «المصلحة الوطنية» أن تعيد إلى هذا القطاع البريق الذي كان يشعّ منه.
والانجاز الأهم الذي يسجّل لهذه الحكومة هو نجاحها في ملء الشواغر في الإدارة العامة التي تعتبر العصب الرئيسي لحياة المواطنين. بعد طول غياب، وشغل موظفين بالوكالة لمهمات في وظائف الفئة الأولى في القطاع العام لسنوات طويلة، لدرجة أن بعض هؤلاء الموظفين نسي وظيفته الأصلية، بدأت حكومة المصلحة الوطنية واستناداً إلى آلية التعيينات التي تم وضعها من قبل مجلس الخدمة المدنية، بتعيين الموظفين الأصليين في مراكزهم، من محافظين إلى مدراء عامين ورؤساء مجالس إدارة مؤسسات عامة ودوائر التفتيش المركزي، وإدارة الجمارك وغيرها، في خطوة عكست «المصلحة الوطنية» الضرورية للبلاد وتوافق الوزراء الممثلين لمختلف أفرقاء النسيج اللبناني الاجتماعي والسياسي الحزبي على ضرورة تقديم المصلحة العليا وإعادة ضخ الدم الجديد في شرايين الإدارة العامة التي بدأت بالاهتراء إن لم تهتري أصلاً.
لقد نجحت حكومة الرئيس تمام سلام بشكل خاص حيث فشلت حكومة سلفه نجيب ميقاتي. إن التعيينات الإدارية وبهذا الحجم غير المسبوق في تاريخ الحكومات اللبنانية، يدلّ على أن شعار «المصلحة الوطنية» تقدّم على المصالح الفردية والخاصة للوزراء، وهم حقّقوا ما كان يعتقد معظم اللبنانيين أنهم لن يقدروا على تحقيقه: التفاهم والتوافق على مصلحة لبنان وأهله، ووضع مصالحهم الشخصية جانباً.
هكذا حكومة تعطي أملاً بمستقبل واعد للبلد وأبنائه.