أبعد من وقف النار في غزة وأي اتفاق مرحلي يرافقه في رعاية أي كان، أن «حل الدولتين» الذي يلقى الإجماع الدولي يحتضر بقرار إسرائيلي بمساعدة «حماس». رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو أوضح هذا الأسبوع علناً ولأول مرة بصدق المواقف الإسرائيلية الرافضة حل الدولتين، أي قيام دولة فلسطين بجانب دولة إسرائيل. «حماس» تلاعبت دوماً متجنبة الالتزام القاطع بحل الدولتين وحرصت على المزايدة على السلطة الفلسطينية برئاسة محمود عباس التي كرّست نفسها لحل الدولتين. الولايات المتحدة جعلت من حل الدولتين أساس سياستها وديبلوماسيتها ليس منذ أتى الرئيس باراك أوباما إلى البيت الأبيض وإنما عبر الإدارات المتتالية. بل إن قرار مجلس الأمن الذي دعا بصراحة إلى حل الدولتين دفعت به إدارة جورج دبليو بوش عام 2002. المبادرة العربية للسلام مع إسرائيل والاعتراف بها اتخذت حل الدولتين ركيزتها الأساسية. ما يسمى بـ «اللجنة الرباعية» التي تضم الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا والولايات المتحدة تم إنشاؤها لتنفيذ حل الدولتين. إذاً، وبما أن أساس الإجماع الدولي يحتضر ويوشك على الانهيار، ما هي الخيارات المتاحة وهل يتدارسها أقطاب «اللجنة الرباعية» أو القيادات الفلسطينية والعربية أم إن الجميع يدفنون الرؤوس في الرمال؟ وماذا لو كانت السياسة المعتمدة حقاً هي التظاهر بأن حل الدولتين قائم فيما فعلياً الكل يعرف أنه لم يعد متاحاً بعد الآن.
وزير الخارجية الأميركية جون كيري يريد أكثر ما يريد أن تسفر جهوده المضنية ورحلاته المكوكية بين الإسرائيليين والفلسطينيين عن معالجة جذرية للنزاع الإسرائيلي – الفلسطيني، على أساس حل الدولتين. عاد كيري إلى بذل جهوده في المسألة الفلسطينية – الإسرائيلية ليس فقط من أجل التهدئة ووقف النار بين إسرائيل و «حماس»، وإنما أيضاً على أمل أن يكون ذلك مدخلاً له لمحاولة أخرى لإنقاذ عملية السلام من الانهيار التام.
أحداث غزة فرّخت معطيات جديدة خدمت الموقف الإسرائيلي الرافض حل الدولتين. فالحديث اليوم يصب في «الأنفاق العدائية» كما يسميها الجيش الإسرائيلي تبريراً للقصف الجوي والبحري وللهجوم البري. الحديث اليوم يتناول شروط وقف النار من فك الحصار الإسرائيلي على غزة إلى فتح المعابر مع مصر. لا أحد يتحدث عن حل الدولتين وعن وسائل إحياء عملية السلام والمفاوضات بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية. فلقد فُرِض أمرٌ واقع جديد.
الذي فرض الأمر الواقع هو حكومة إسرائيل و «حماس» و «الجهاد الإسلامي». السلطة الفلسطينية تلهث وراء أحداث غزة. انحسرت قوى الاعتدال الإسرائيلية والفلسطينية. بات الحديث بين قوى التطرف الإسرائيلي والتطرف الفلسطيني سيد الساحة. والضحية مدنية بأكثر من 700 فلسطيني، 77 في المئة منهم مدنيون، وبـ35 إسرائيلي، 3 منهم مدنيون، وفق الإحصاءات عند كتابة هذه السطور.
الجديد أيضاً الذي أتى مع أحداث غزة هو تقوقع الرأي العام الإسرائيلي في زاوية دعم إجراءات حكومته وتشجيعها على المزيد على رغم التفاوت الواضح بينه وبين الرأي العام العالمي الذي احتج على وسائل العمليات الإسرائيلية العسكرية في غزة وحصيلتها.
الشرخ بين الرأي العام الإسرائيلي والرأي العام العالمي مخيف بدلالاته على ما يريد الإسرائيليون حقاً في علاقاتهم مع الفلسطينيين. الرأي العام الإسرائيلي لم يدعم «حماس» في إطلاقها الصواريخ بل دانها. لم يبارك الأنفاق، بل ندّد بها. لم يغض النظر عن تبريرات قتل المدنيين الفلسطينيين بتحميل «حماس» مسؤولية الاختباء تحت البيوت واستخدام الناس دروعاً بشرية، بل شهّر بها. لم يتعاطف مع استخدام مدارس «الأونروا» لإخفاء الصواريخ، بل صاح ضدها. لكن الرأي العام العالمي لم يوافق الإسرائيليين في تعمّد قتل المدنيين الفلسطينيين إذا حدث أنهم سكنوا في المواقع التي قررت الآلة العسكرية الإسرائيلية إبادتها.
الكوميدي جون ستيوارت لخّصها ببلاغة: إلى أين يذهب المدنيون الذين تبلّغهم إسرائيل بأن عليهم الإجلاء قبل القصف بساعات في غزة المحاصرة وغزة المكتظة بالسكان وغزة المغلقة؟ لخّصها ببلاغة عندما عرض شريطاً أوضح كيف أنه من المستحيل مجرد ذكر كلمة إسرائيل قبل انقضاض الاعتذاريين عنها على كل من يجرؤ على انتقادها، وكيف ينقض المدافعون عن فلسطين على مَن يجرؤ على انتقاد «حماس» لاستخدامها الدروع البشرية.
وولف بليتزر أجرى مقابلة في CNN مع عمدة نيويورك السابق مايكل بلومبرغ لدى وصوله إلى مطار بن غوريون حاملاً على قرار وكالة الطيران الفيديرالية FAA قطع رحلات شركات الطيران الأميركية إلى إسرائيل بسبب وقوع صاروخ «حماس» قرب المطار في تل أبيب. مدهش كان عداء بلومبرغ نحو بليتزر المراسل السابق لـ «جيروزاليم بوست» قبل الالتحاق بـCNN. احتج على كل سؤال بدهي، واتهم الصحافي الموالي لإسرائيل بتحريض الرأي العام الأميركي ضد إسرائيل.
هذا مجرد مثل واحد على النهوض الأميركي ضد أي انتقاد لإسرائيل وعلى منع الحوار والنقاش أميركياً في أي شأن إسرائيلي. وعلى رغم ذلك، أفادت الاستطلاعات انخفاض الدعم التلقائي لإسرائيل لدى الرأي العام الأميركي الذي احتج على التبرير الإسرائيلي لقتل المدنيين الفلسطينيين عمداً.
هذا لن يُترجم في تحوّل جذري في الرأي العام الأميركي لمصلحة فلسطين على حساب إسرائيل. إنه احتجاج عابر. فالعلاقة العضوية الأميركية – الإسرائيلية باقية – وفي الأيام القليلة المقبلة ستتمكن الآلة الإسرائيلية من تحويل اللوم القاطع إلى الفلسطينيين. ستكون «حماس» الوقع الأساسي للوم لأنها في الرأي الأميركي، الرسمي والشعبي، منظمة إرهابية. لكن الضحية الأبعد ستكون السلطة الفلسطينية الضعيفة ومعها عملية السلام وحل الدولتين الذي يتطلب إنهاء الاحتلال الإسرائيلي. وكلمة «الاحتلال» ستُلغى من القاموس الأميركي، كما تخطّط لها إسرائيل.
فماذا حققت «حماس» مرحلياً وماذا أنجزت من أجل فلسطين على المدى البعيد؟ قد تتباهى «حماس» بأنها أجبرت شركات الطيران العالمية على إيقاف رحلاتها إلى إسرائيل نتيجة الصواريخ التي أطلقتها. قد تشد ظهرها برفضها المبادرة المصرية لوقف النار وفرض المبادرة القطرية بدلاً منها علماً أن قطر تدعمها وأن انتماءها إلى «الإخوان المسلمين» اتخذ بعداً قيادياً بسبب رفضها التعامل مع مبادرة مصر التي أسقطت حكم «الإخوان المسلمين». قد تقهقه ضمناً لأنها أجبرت أمثال الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون والوزير جون كيري على بذل الجهود لتلبية بعض مطالبها لوقف النار. قد تتباهى بأنها بدت المتحدث باسم الفلسطينيين على حساب السلطة الفلسطينية. وقد تجد أن أحداث غزة أفادتها عن التموضع فلسطينياً وإقليمياً. وقد تعتقد أن الرأي العام العالمي تعاطف مع الفلسطينيين المدنيين نتيجة صواريخها التي أحيت المسألة الفلسطينية في الضمير العالمي.
كل هذا مرحلي لأن الانصباب سيكون على كيفية تجريد «حماس» من القدرة العسكرية بما في ذلك ردم الأنفاق وقطع الطريق على تسلمها المزيد من الصواريخ. مرحلي لأن «حماس» قد تظن أنها كسبت معركة إنما الحرب الأساسية يُفترض أن تكون من أجل إنهاء الاحتلال الإسرائيلي وإقامة دولة فلسطين وهذا بات الآن في مهب الريح.
«حماس» تدرك جيداً أن المطلوب منها أن تصبح عنوان التطرف والإرهاب كي يبرر اليمين الإسرائيلي خطته البديلة عن حل الدولتين وهي الحل الديموغرافي الذي يتطلب الإبعاد القسري للفلسطينيين من داخل إسرائيل كي تصبح إسرائيل الدولة اليهودية المنظفة من الفلسطينيين.
في مؤتمره الصحافي يوم الجمعة الماضي، قال بنيامين نتانياهو صراحة انه يستبعد كلياً وقطعاً إعطاء الفلسطينيين السيادة التي يتطلبها حل الدولتين. صحيفة «تايمز أوف إسرائيل» عرضت تفاصيل ما قاله نتانياهو بالعبرية. كشفت كيف أن نتانياهو تظاهر لتسعة شهور أنه ينخرط في المفاوضات التي رعاها جون كيري فيما كان في باطنه يخطط لإحباط حل الدولتين ويتبنى عملياً المشروع الاستيطاني. قال: «أعتقد أن الشعب الإسرائيلي يفهم الآن ما أقوله دائماً» وهو أنه ليس ممكناً أن ينشأ وضع تحت أية اتفاقية، يسمح بالتخلي عن السيطرة الأمنية على الأراضي غرب نهر الأردن.
فماذا أمام وضوح رفض إسرائيل قيام دولة فلسطين التي يمليها حل الدولتين؟ وهل هناك من يجرؤ على الاعتراف بزوال حل الدولتين، دولياً وإقليمياً وعربياً وفلسطينياً؟ باختصار، لا أحد يجرؤ. الكل يختبئ وراء إصبعه ويتظاهر أن هناك بريق أمل ضئيلاً.
التحدي الأول هو للفلسطينيين أنفسهم. أمامهم خيار العملية السياسية حتى وإن كانوا على اقتناع بأن عملية السلام ليست سوى مخدر موقت وإن ما آلت إليه الأمور هو مجرد «عملية» بلا جدوى وبلا أفق. الذين يتمسكون بالحل السياسي يشيرون إلى أنه ليس هناك حل عسكري لمصلحة الفلسطينيين بل أي حل عسكري سيأتي على حسابهم. بالتالي، إن «العملية» هي صمام أمان يمنع سحق الفلسطينيين عسكرياً ويحرم الإسرائيليين من تنفيذ الحل الديموغرافي، أقله حتى إشعار آخر.
الخيار الآخر هو الحل العسكري والذي يعتبره الكثير من الفلسطينيين حلاً انتحارياً علماً أن الحرب ستكون فلسطينية حصراً ولن تشارك فيها الدول العربية ولا إيران ولا من يتظاهر أنه يتبنى القضية الفلسطينية.
الخيار الثالث هو حرب الاستنزاف والتي يبدو أن «حماس» تعتزم القيام بها في معارك متفرقة تتخللها مفاوضات وصفقات موقتة لمنع تفشي الإرهاب «الداعشي» في غزة لينطلق إلى داخل إسرائيل.
إسرائيل لا تأبه بردود الفعل الدولية إذا قررت تنفيذ الحل الديموغرافي الذي يؤمّن لها دولة يهودية نقيّة من الفلسطينيين ويفرض الأردن وطناً بديلاً للفلسطينيين. ما قالته إسرائيل دائماً حول الأردن الوطن البديل كحل جذري سقط في دوامة النكران عند الآخرين. اليوم، ومن غزة، يتم إحياء عناصر الخطة الإسرائيلية الأصلية.
أضعف الإيمان أن يكف الجميع عن التظاهر ودفن الرؤوس في الرمال. فإسرائيل تجهر بما في ذهنها وتكشف عن حقيقة أهدافها. حان وقت الإقرار بالواقع وحان للأطراف العربية والدولية البدء بوضع الخطط الطارئة والبعيدة المدى لما بعد الصلاة على روح حل الدولتين.