IMLebanon

«حيدر عبادي» آخر في سورية لحشر «داعش»؟

القضاء على «داعش» لن يكون سهلاً وسريعاً. لن تكون الحرب الدولية خاطفة كما كان صعود التنظيم صاعقاً ومفاجئاً. والرئيس باراك أوباما كان صائباً بإعلانه أن ليس لإدارته استراتيجية بعد. قيام «الدولة الإسلامية» جبّ كل السياسات السابقة. أسقط حسابات وأهدافاً ومواقع وأربك علاقات. والتحالف الذي تسعى إليه أميركا من دون بنائه تعقيداتٌ جمة تفوق ما يتوقع المتفائلون بإنهاء هذه «الظاهرة» بين ليلة وضحاها. لن ينجح مثل هذا البناء إذا اقتصر على الميدان العسكري والأمني. سيقوم أعرج على ساق واحدة ما لم تواكبه تفاهمات سياسية كان غيابها في أساس ما آلت إليه أوضاع بلاد الشام كلها. ولا مبالغة في هذا المجال إذا كان الجميع ينتظرون صورة الحـــكومة العراقية الجديدة. ستؤشر تركيبتها وعنــــاصرها وتوزيع «الحصص» فيها إلى مدى اقتناع جميع اللاعبين، داخليين وخارجيين، بأن صفحة قديمة طويت ولا يمكن تكرار النموذج السابق. لا مجال لتأجيل أو مماطلة أو تذاكٍ في استجابة رغبات كل الــمكونات السياسية والمذهبية والأثنية. أي التفاهم على صيغة لا بد من أن تلزم الجميع بخفض توقعاتهم وتقديم تنازلات… إذا كان على العراق أن يتعافى ويستعيد الحد الأدنى من وحدته.

إن قيام حكومة عراقية تحظى بقبول جميع المكونات يعني ببساطة أن السياسة السابقة التي نهجتها النخب الشيعية الغالبة، ومن خلفها إيران، باتت من الماضي. وان هناك مقاربة مختلفة وسياسة عقلانية وواقعية. وهو ما سيسهل قيام تفاهم داخلي على مقارعة «داعش». سيشجع كل القوى، خصوصاً منها السنّية المترددة، على الانضمام إلى الكتل والعشائر التي قررت محاربة التنظيم. العامل الأساس في التفاهم المتوقع إذاً سياسي بامتياز، وليس عسكرياً. الخصم العنيد لأهل السنّة والذي حُمّل مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع في العراق خرج من مكتب رئاسة الوزراء. لكنه لا يزال رقماً في اللعبة السياسية لا يمكن تجاهله. وكان خروجه خطوة باركها جميع العراقيين وكل المعنيين إقليمياً ودولياً. حتى بادرت إيران إلى تغيير فريقها الذي كان يـــتولــى إدارة الشأن العراقي. وإذا سارت الأمور كـــما هو مقدر لها سيعني ذلك أن ثـــمة مجالاً للتـــفــاهم بين الجمهورية الإسلامية والولايات المتحدة، كما حصل عشية الحرب الأميركية على أفغانستان ثم في الحرب على نظام الرئيس صدام حسين إذا… تــلاقت الأهــداف أو كانت المخاطر والتحديات مشتركة. وسيعني أيضاً ان ثمة مجالاً للتفاهم أيضاً بين طهران وجيرانها الذين تعاطفوا ويتعاطفون مع مطالب المحافظات والكتل السنية.

النموذج العراقي هذا يظل يتيماً، إذا قام وتوافرت له أسباب البقاء. وقد ينجح في تطويق انتشار «داعش» واحتواء خطره الداهم. لكنه لن يمهد للقضاء عليه. الإرهابيون سيجدون في مناطق نفوذهم السورية ملاذاً آمناً لإعادة تنظيم صفوفهم والإنطلاق مجدداً عبر الحدود المفتوحة بين البلدين. لذلك لا بد من إيجاد شريك سوري لخوض معركة مماثلة لتلك التي تخوضها «البيشمركة» وقوات النخبة العراقية وقد تنضم إليها مكونات أخرى. ولن يكون أمام التحالف الدولي والإقليمي سوى الاعتماد على الفصائل المعتدلة في المعارضة السورية التي خاضت معارك طويلة مع التنظيم. ولن تكون هذه قادرة على رفع التحدي ما لم تتلق تسليحاً نوعياً، ومدداً مالياً يمكنها به إغراء الملتحقين بـ «الدولة الإسلامية». وهنا يطرح السؤال عن موقف إيران التي تبدي حماسة شديدة للمشاركة في هذه الحرب الكونية. لكنها من جهة ثانية تمد نظام الرئيس بشار الأسد بكل أسباب الصمود. وهو ما يعيق لقاءها مع المطالبين برحيل هذا النظام من قوى محلية وخارجية.

ليست هذه الإشكالية الوحيدة. فالتعويل على القوى السنية المعتدلة في سورية والمنطقة المتأهبة لمواجهة «دولة الخلافة» يستدعي شروطاً وتنازلات من الآخرين. أرجأ تحركها حتى الآن صمت الولايات المتحدة وأوروبا على ما تعرض له أهل السنة في كل من العراق وسورية ولبنان. وأغضبها «الكـــيل بمكيالين»: الغرب لم يحرك ساكناً حيال ما يــــتعرض له السوريون من قتل وتهجير ليسا أقل فظاعة مما يجري على أيدي «الدواعش». بل لم يتحرك طوال شهرين بعد موقعة الموصل لمواجهة «الدولة الإسلامية»، إلا عندما شعر بتعرض مصالحه للخطر في كردستان. وهال هذه القوى أيضاً «تغول» طهران وسياسة «التمكين» عبر حضورها ونفوذها الثقيلين في قلب المنطقة العربية وضفافها.

الكرة في ملعب إيران أيضاً. فإذا كانت جادة في قتال «داعش» في سورية كما في العراق، لن يكون أمامها سوى تعميم النموذج العراقي. وترجمة رغبتها يكون باستجابة رغبات أساسية لأهل السنة في بلاد الشام. ويمكن في هذا الإطار أن يكون الحوار الذي انطلق بينها وبين المملكة العربية السعودية عاملاً مساعداً. فهي تدرك مدى قدرة الرياض وتأثيرها في قسم واسع من القوى في سورية كما في العراق ولبنان، خصوصاً بعد التطورات في الفضاء المحيط بشبه الجزيرة. لقد تبدد جزء غير يسير من المخاوف التي استبدت بالسعوديين والخليجيين عموماً في السنوات الثلاث الماضية. أقلقتهم أحداث «الربيع العربي» والمتغيرات التي حملها خصوصاً في مصر. شعر «مجلس تعاونهم» بأنه بات تحت حصار خانق. تعرى من أسباب القوة، فيما الشريك الأميركي لا يعير اهتماماً لمخاوفهم ومصير أمنهم ومصالحهم. فالحدود الشمالية والشرقية تشتعل اضطراباً، وإيران تجول وتصول وتتمدد عبرها وخلفها. وكذلك الأمر في اليمن حيث تتمدد الحركة الحوثية.

تبدل المشهد ويتبدل تدريجاً: مصر عادت إلى الفضاء الخليجي وعاد إليها أهل الخليج. وصمد الأردن الذي شكل على الدوام منطقة عازلة بين شبه الجزيرة وأحداث الشام. والاجتماع الوزاري الخليجي قبل يومين خطوة على طريق إعادة اللحمة إلى هذا التكتل العربي. وحدته تمنح المملكة وشركاءها في المنطقة مزيداً من القدرة على الحركة. كان من الصعب قبل الأحداث الأخيرة في العراق وسورية أن يجلس الطرفان السعودي والإيراني إلى الطاولة. كان مطلوباً من الجمهورية الإسلامية أن تقدم تنازلات في ساحات عدة فيما هي تحمل كماً من الأوراق. ولم تكن المملكة والحال هذه في موقع مقايضة. تبدل المشهد اليوم في القاهرة وعمان. حتى أهل السنة في العراق وسورية الذين عولوا طويلاً على جيرانهم العرب، وراقبوا بما يشبه «الحياد» ولكن على مضض، تقدم قوى الإرهاب التي تقاتل في الدرجة الأولى الشيعة والقوى المرتبطة بإيران، أثبت «غيابهم» أو «تغييبهم» عن سلطة القرار أنهم قادرون إلى حد ما على قلب المعادلة القائمة. ولا شك في أن انصافهم في تشكيلة حيدر العبادي سيكون مقياساً لما ستكون عليه وجهة الحرب المقبلة الشاملة، خصوصاً في الجبهة السورية.

الظروف القائمة في العراق تختلف بالطبع عن مثيلتها في سورية. وانخراط إيران في التفاهم على الحكم الجديد في بغداد أملاه في الدرجة الأولى الخوف من تداعيات الحدث «الداعشي» ليس على موقعها في بلاد الرافدين فحسب بل في سورية ولبنان لاحقاً. وسيكون موقفها قريباً مما يجري في سورية مؤشراً مفصلياً إلى مدى تبـــدل حقــــيقي في سياستها حيال المنطقة برمتــها. في حين لا يشي الحدث اليمني بمثل هذا التـــبدل، إلا إذا كانت الغاية مقايضة تحد عبرها من الخسائر المحتملة. فقد قفز الحوثيون فجأة إلى مقدم الصورة. كأن المطلوب أن توضع هذه الورقة على الطاولة بيد طهران للمساومة، على حد ما قال الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي من أن الجمهورية الإسلامية تريد أن تضع صنعاء في مقابل دمشق!

حتى الآن لا يبدو أن تعويم النظام السوري من أجل المساهمة في الحرب على «داعش» وارد في سياسة جميع الساعين إلى التحالف لبناء الحرب المنتظرة. لعل أكبر المحاذير في التنسيق مع هذا النظام الذي يسوق الجميع اتهامات إليه بأنه كان وراء استدراج كل قوى التطرف إلى سورية، أنه سيقود إلى مزيد من المناصرين لـ «الدولة الإسلامية» في عموم بلاد الشام. وسيدفع أهل السنة في العراق إلى مد يد العون إلى «أهلهم» في سورية، ما دامت الحدود سقطت بين البلدين. وما دام «الخصمان» المتواجهان يخوضان المعارك في ساحة واحدة من جلولاء إلى عرسال اللبنانية مروراً بالرقة ودير الزور. لذا لا مفر أمام إيران سوى استكمال انعطافتها التي بدأت في العراق، إذا باتت فعلاً مقتـــنعة بوجــوب نهج سياسي مختلف. فهل يكون رأس النظام في النهاية هو الثمن؟

لن يكون سهلاً اقناع القوى التي تقف خلف الرئيس بشار الأسد بالتخلي عنه بعد كل ما جرى في البلاد. الأسهل والواقعي العودة إلى المسار السياسي بقيام حكومة جديدة تشارك فيها كل المكونات تنشر مظلة من الأمان والاطمئنان إلى مستقبل هذه المكونات وأقلياتها خصوصاً. ولا يضير مثل هذا التغيير إيران. ذلك أن الكتلة التي دعمتها طوال الأزمة لا بد من أن تكون حاضرة في الحـــكم. ما لم يتوافق المتحفزون لمنازلة «داعش» على حيدر العبادي «السوري» لن تجدي الحرب على «الدولة الإســـلامية». وما لم تبادر الجمهورية الإسلامية وحلفاؤها وخصومها العرب إلى بناء استراتيجية واقعية مشتركة سينتظرون طويلاً استراتيجية الرئيس أوباما الغائب الأكبر منذ دخوله البيت الأبيض… كيــفما تلفتوا: من ليبيا إلى مصر وفلسطين، ومن اليمن … إلى أوكرانيا مروراً بالشرق ووحوشه الإرهابيين!