IMLebanon

حيرة أبرشيّة بالعالم في زمن… «داعش»

بعد أن تناولت حلقة الأمس مرور الطريق إلى ميشال عون من… جونيه، هنا التتمة الأخيرة:

< تغيّرت جونيه كثيراً منذ حرب السنتين. فالبلدة البحريّة ذات السطوح القرميديّة، المنسجمة والمتواضعة في استعراض مفاتنها، لم يبق منها الكثير. ذاك أنّ القرى الثلاث، حارة صخر وساحل علما وصربا، التي تشكّلت جونيه من تمدّدها العمرانيّ، باتت هدفاً للباطون الزاحف الذي يستهوي الباحثين عن سكن رخيص مثلما يستهوي الساعين إلى ربح وفير.

ضدّ بيروت

فمع تلك الحرب، أواسط السبعينات، تدفّق المسيحيّون بكثرة على جونيه. لقد جاؤوا من مناطقهم الأبعد بحيث أصابوها بنموّ عشوائيّ مصحوب، كما الحال دوماً، بعديد المشاكل البيئيّة. فقبلاً لم يكن فيها سوى الكازينو ونادي اليخوت في الكسليك وبعض الفنادق المتفرّقة، وبالطبع جامعة الكسليك. لكنْ مع الحرب، ومع شفط الرمول، تكاثر البناء ونشأت المشاريع السياحيّة الكبرى ومسابح وفنادق خاصّة وعشوائيّة يحميها في الغالب متنفّذون أقوياء، فيما راحت تتزايد الجامعات الخاصّة عاماً بعد عام. كذلك ارتفع عدد سكّان المدينة ومحيطها القريب إلى 250 ألفاً، أي أضعاف ما كان عليه من قبل.

وجونيه، التي كانت أساساً مرفأ صغيراً وسوقاً لأهل الجرد الكسروانيّ، نما اقتصادها وليلها على إيقاع الدفق السكّانيّ والشبّان المقاتلين. لكنْ ربّما جاز التأريخ لبداية ذاك التحوّل بسرقة مرفأ بيروت حيث انفجرت التجارة في جونيه بعدما نُصبت فيها الخيم لبيع السلع المسروقة في العاصمة ومنها. ولئن حصل هذا قبل أن يزدهر مرفأ جونيه نفسه، والذي اضطلع في الحرب بدور أساسيّ، فإنّه نمّ عن وجه بارز من وجوه العلاقة ببيروت وبفكرة «المركز» اللبنانيّ ذاته.

فكسروان، بوصفها «عاصمة الموارنة»، تستبطن وعياً نافياً لـ «عاصمة اللبنانيّين» أو محتجّاً عليه. فلم يكن صدفة أن يمهّد انهيار الوسط التجاريّ وسرقة المرفأ لانتفاخ جونيه التي آوت المسيحيّين الهاربين من مناطقهم والمهدَّدين فيها. والحال أنّ الوعي هذا، في اكتفائه الذاتيّ وفي انكفائه على رقعته الجغرافيّة، يرى إلى بيروت بوصفها، وفقاً لجوزيف خوري، «المكان المسلم، الشاهق والبعيد في وقت واحد». وأغلب الظنّ أنّ اكتظاظ الأتوستراد الذي يصل جونيه ببيروت، مُنكّداً ومُلوّثاً حياة السكّان على جانبيه، يضيف جرعة عداء أخرى لبيروت. وفي الأحوال كافّة يُلمَس كيف أنّ ما يجري في العاصمة يكاد لا يعني الكسروانيّين، حتّى لا نذكر ما قد يجري في طرابلس أو صيدا.

كذلك لم يكن صدفة أنّ يترافق تراجع جونيه السياحيّ والخدميّ، حين غادرها مع انتهاء الحرب كثيرون من المهجّرين إليها ومن التجّار الذين قصدوها، مع انبعاث بيروت بعد اتّفاق الطائف. وهذا ما أثار لدى الكسروانيّين فرضيّات تغازل الوعي التآمريّ، بعضها يردّ ذاك التراجع إلى قيام الوسط التجاريّ، وبعضها يردّه إلى توسّع شارع فردان، لكنّها كلّها تردّه إلى بيروت مرموزاً إليها بهذه التسمية أو تلك. هكذا، مثلاً، سرت سريان النار في الهشيم شائعة أنّ آل الحريري ينوون بناء جامع في جونيه، أو أنّ حليفهم المناوئ لميشال عون، منصور البون، يبيع أراضي للحريري ويبني مسجداً بين ظهرانيهم.

لكنّ ما لا يُنتبه دائماً إليه أنّ الكتائبيّين، والقوّاتيّين من بعدهم، هم الذين كانوا وسيط التغيير الذي لفح جونيه. فهم من فتح الباب لـ «الأغراب»، إمّا كمقاتلين أو كلاجئين هجّرتهم الحرب التي خاضها الطرفان المذكوران، ولاحقاً كمستثمرين وباحثين عن أرباح سريعة. وبالمعنى هذا، انكسر «الغريب» الذي وُصف به طويلاً أهل جونيه، ليستقرّ في الجرد محافظاً هناك على درجة من «الصفاء» أعلى.

فالوافدون، أو بعضهم، عمّروا المدينة بأموالهم تعميراً سيّئاً، كما أحدثوا انفتاحاً على العالم الخارجيّ لم تعرفه من قبل كسروان. وكان هذا، على ما يجري عادة في الحروب، مختلطاً وملتبساً بما فيه الكفاية. فقد استثمروا على البحر وأقام البيارتة منهم، وخصوصاً الشماليّين، مطاعمهم، كما انتشرت مشاريع سياحيّة رخيصة على الساحل، جاعلةً السباحة هواية مكلفة ومحصورة بأعضاء نادي اليخوت في الكسليك. والحال، وكما يلاحظ جوزيف خوري، أنّ التقليد التجاريّ ضعيف أصلاً في جونيه. ذاك أنّ المشاريع التي انتقلت منها، وربّما كانت بوظة القزيلي أهمّها، لم تنجح في التمدّد إلى باقي المناطق اللبنانيّة. بيد أن التمديُن «بالرخص»، كما وصفه واحد ممّن تحدّثنا إليهم، جعل المدينة متاحة ماليّاً لأعداد أكبر من المسيحيّين الذين تضاعف تدفّقهم عليها.

انفتاح… يجدّد الانغلاق

فباسم الدفاع عن الطائفة إذاً انهارت خطوط الدفاع عن المنطقة التي تهاوت عزلتها. وهو انهيار انطوى على تناقضات وتفاوت. فلدى الاستماع مثلاً إلى نائب رئيس البلديّة الحاليّ فؤاد بويري يتحدّث بشيء من الافتخار عن نشأة الفنادق والفورة العمرانيّة، لا يفوته تحوّل «عدم بيع الأراضي للغريب» شاغلاً أساسيّاً، وإن ظلّ مُحدّثنا يرفض الربط بين غربة «الغريب» وطائفته. بيد أنّ السنوات الأخيرة شهدت ضخّ أموال عراقيّة مسيحيّة، كما شاع شراء بعض المسيحيّين العراقيّين بيوتاً في وسط المدينة، واليوم يُلحظ في كسروان رأس مال سوريّ مسيحيّ أيضاً.

لكنّ شعوراً غامضاً يلازم الناظر إلى هذا الشريط الساحليّ، مفاده أنّه يأخذ سالكَه إلى لا مكان، أو يردّه لا محالة إلى المكان الذي انطلق أصلاً منه. فجونيه وساحلها محبوسان في نهاية الأمر بين طرابلس وبيروت السنيّتين، محكومان بأفقهما المُلزم، ولن يغيّر كسرُ عزلتهما حقيقةَ أنّ الجرد الكسروانيّ سيبقى، حتّى إشعار آخر، الرئة المضمونة.

هكذا، ومن بين أسباب عدّة أخرى، تُفهم قوّة ما سمّاه أحدهم «العصب الدينيّ» في كسروان، وهو ما يُلحظ، مثلاً لا حصراً، في إقبال الشبيبة على الكهنوت.

فالرهبانيّات المارونيّة اللبنانيّة الأكبر مركزها كسروان، وثمّة نشاطات رعويّة وأخويّات كثيرة كـ «الحبل بلا دنس» و «جنود مريم»، التي تعقد مؤتمراً سنويّاً وتبدو أشبه بحزب غير سياسيّ ينضوي فيه أفراد تعدّدت أحزابهم واختلفت، إلاّ أنّ قيادته تعود حصراً إلى بكركي. وبدورها تملك الأخيرة جيشاً «أبيض» مؤلّفاً من رجال الدين والرعويّات والأديرة والمدارس والجامعات وسائر المؤسّسات، ما يمنحها موقعاً مؤثّراً في توجيه شرائح كبيرة من السكّان وفي رسم خياراتهم. وتضطلع الآلة الإعلاميّة للكنيسة، خصوصاً محطّة «تيلي لوميار» (النور) التلفزيونيّة، بدور ساعدها في نشر أشكال جديدة من التشدّد الدينيّ والطقوس المصاحبة له، كـ «الخلوات» التي تستقطب شبّاناً وفتيات إلى أديرة يقيمون فيها أسبوعاً أو أكثر منقطعين للعبادة والصلاة. وغنيّ عن القول إنّ تماثيل العذراء بالأحجام جميعاً، فضلاً عن باقي الصور والرموز المسيحيّة، هي من حواضر كلّ بيت وكلّ شارع في كسروان التي تحضن، بسبب بكركي وحريصا والتلفريك، سياحة دينيّة مرموقة.

هكذا يبدو طبيعيّاً أن تظهر احتجاجات أخلاقيّة على بعض نتائج الانفتاح التي استمرّت بعد ضمور الدور السياحيّ لجونيه. فمنذ الثمانينات، نمت خدمات في المعاملتين استفزّت المحافظين، وكان وجود المسلّحين الشبّان وضرورة ترفيههم والترويح عنهم أحد أسباب الطلب على الخدمات تلك. لكنْ في أواخر ذاك العقد، كما في التسعينات، تظاهر كسروانيّون مؤمنون ضدّ هذا الوسواس الخنّاس، وشملوا بغضبهم الإعلانات التي عدّوها جنسيّة وغير أخلاقيّة.

ويبدو فؤاد بويري أحد أصوات الاحتجاج الأخلاقيّ على بعض نتائج السياحة. فهو يتحدّث عن الإزعاج الليليّ للسكّان، وعن «أوكار دعارة ومخدّرات» يقول إنّها «ضُبطت»، كما يستنكر وجود علب ليل على مقربة من كنائس ومدارس.

ودور الكنيسة، على أيّ حال، لا يلغي التراجع الذي أصاب بعض وظائفها. فهي، وفق كثيرين، لم تعد تقدّم الخدمات التي درجت طويلاً على تقديمها من تعليم وطبابة، وبات جلّ اهتمامها، كما يقول نقّادها، منصبّاً على تعمير الأديرة المهدّمة.

الحياة القليلة والصغرى

هذا العالم الأبرشيّ المحكوم بخلطة العائلات والأحزاب والكنيسة يمضي في حياته التي تظهّرها انتخابات البلديّة والمخترة. وبالطبع يبقى ميشال عون وزعامته أكبر محطّات التقاطع بين مصادر تلك الحياة الصغرى والقليلة. فهو الذي يصفه جوان حبيش بأنّه من «أعاد فرز المجتمع والعائلات» و «من تدور المعارك الانتخابيّة بين من يؤيّده ومن لا يؤيّده»، من دون أن تحول هذه الحقيقة دون اضطرار عون، في 2005 ثمّ في 2009، إلى اصطحاب اثنين من أبناء العائلات السياسيّة، هما جيلبرت زوين وفريد الخازن، على لائحته.

ويندفع بعيداً نعّوم جرجي مطر، مختار حارة صخر غير المولع بعون، في توكيده على أهميّة العائلات، بحيث يشدّد على أنّ شرط إسقاط الجنرال في أيّة انتخابات مقبلة تشكيل لائحة عائلات في وجهه من دون مشاركة الأحزاب. لكنّ التفتّت الكسروانيّ يجعل المرشّحين، العائليّين منهم والحزبيّين، يفيضون كثيراً عمّا تسعه لائحتان متنافستان تقتصر كلّ منهما على خمسة مرشّحين فحسب. وهذا ما يهبط إلى السويّات التمثيليّة الأدنى، بحيث سبق لـ13 مرشّحاً، على ما أخبرنا مطر، أن خاضوا معركة المجلس الاختياريّ في حارة صخر.

ثمّ إنّ السياسة في كسروان هي التسلّي بأخبار السياسيّين. فنوّاب عون، مثلاً، يرفلون في العاديّة فلا يثيرون انطباعات أو ردود فعل يحتكرها عون وحده. أمّا خصم الجنرال الأبرز، منصور البون، وهو نجل فؤاد البون، فيبدو كأنّ لكلّ كسروانيّ من أيّ عمر وبلدة رواية شخصيّة معه. فمنزله امتداد للشارع، يرتاح فيه سائقو سيّارات الأجرة في ساحة جونية شتاءً، فيدخلون من دون أن يقرعوا الباب. وليس من باب الدعابة ما يحكى عن أنّ البون يسبق الناس إلى المستشفى أو المطار لعيادة مريض أو لاستقبال جنازة.

وفي مقابل البون، «الخدوم» و «الشعبيّ»، يقف فارس بويز، نجل نهاد بويز والصهر السابق للرئيس الياس الهراوي. فهو من تصطبغ صورته بالتعالي والعنجهيّة والامتناع عن تقديم الخدمات من أيّ نوع، بحيث نال في انتخابات 2009 أقلّ الأصوات في اللائحة التي ضمّته. وثمّة أسماء جديدة، أو جديدة نسبيّاً، يتداولها الكلام، كنعمت أفرام، نجل الوزير الراحل جورج أفرام، وابن شقيق رئيس البلديّة الحاليّ أنطوان. وميزة عائلة أفرام كونها أسرة صناعيّة تملك مؤسّسات وشركات كـ «إندفكو» للإنماء الصناعيّ و «سانيتّا»، فضلاً عن مؤسّسات علاج من إدمان المخدّرات كـ «أمّ النور». وهذا جميعاً ما يتيح لهم توفير فرص عمل كثيرة لطالبيها، أو تقديم منح دراسيّة وخدمات إنمائيّة متفرّقة.

ويُذكر في هذا المعرض رئيس اتّحاد بلديّات كسروان نهاد نوفل الذي يُربط اسمه غالباً بـ «الإنماء» وبكونه «محسوباً على الرئيس السابق ميشال سليمان».

الوضاعة الأبرشيّة

لكنّ الباحث عن مواقف كبرى، تتجانس مع المزاعم الوطنيّة أو المارونيّة، فعن عبث يبحث. ذاك أنّ الغالبيّة الساحقة لزعماء كسروان وسياسيّيها تعاملت مع عهد الوصاية السوريّة، وشغلت في ظلّه مواقع نيابيّة أو وزاريّة. فالراحل جورج أفرام كان نائباً في 2000-2004 وتولّى عديد الحقائب الوزاريّة، ناجحاً في إخفاء كلّ لون سياسيّ له. أمّا فريد هيكل الخازن فكان نائباً في الفترة نفسها، يصفه بعض محبّيه بأنّه «لا يشتم سوريّة لأنّ مصالح وعلاقات وثيقة تربطه بها». وبدوره حلّ فارس بويز نائباً ووزيراً شبه دائم في سنوات الوصاية، وكوزير خارجيّة كان محامياً لا يلين عن «وحدة المسار والمصير». وثمّة كثيرون يتّهمون بويز بأنّه سعى طويلاً، مثله مثل فريد هيكل الخازن، لإغراء ميشال عون باصطحابه على لائحته. ومعروفٌ أنّ منصور البون، مثله مثل بويز، رشّح نفسه للتعيين نائباً في 1992 على رغم إرادة بكركي المقاطِعة. إلاّ أنّه سارع، بُعيد اختياره، إلى الصعود إليها وسؤال البطريرك صفير غفرانه.

هكذا يتصرّف السياسيّ الكسروانيّ بموجب حكمة تقول إنّ الغياب عن المنصب لأربع سنوات متتالية كفيل بتقويض زعامته. ووفقاً لحكمة كهذه تراه يبدي استعداداً مطلقاً للإذعان وللرضوخ لكلّ باب عالٍ، بحيث ينشأ نوع من الوضاعة الأبرشيّة غير المعنيّة بأيّ بُعد وطنيّ مزعوم.

وهذا ما يفسّر جزئيّاً الاكتساح العونيّ في 2005 إذ خاطبت العونيّة أيضاً الشعور بالكرامة والرفض لسنوات الوصاية وللذلّ الذي مارسه الأعيان الصغار إبّانها. لكنّه يفسّر أيضاً كيف أنّ كسروان لم تنجب زعيماً مارونيّاً واحداً من صنف زعماء الصفّ الأوّل. وعلى رغم كونها «عاصمة الموارنة»، لم يبرز من المحاربين، خلال سنوات الحروب، إلاّ اسم كسروانيّ واحد، هو القياديّ القوّاتيّ فادي أفرام الذي بقي هامشيّاً جدّاً في عائلته ومنطقته.

هذا العالم الغريب

يسير التاريخ سيراً بطيئاً، لكنّه مخادع، في كسروان. فالعونيّون والقوّاتيّون، وفقاً لأنطوان سلامة الذي وضع كتاباً عن طانيوس شاهين، يتنازعون على من هم الأحفاد الفعليّون للثائر الفلاحيّ. وهناك دائماً من يفتخر خطابيّاً بشاهين، أو بالراديكاليّ الكسروانيّ الآخر فارس الشدياق. لكنّ كسروان التي كانت الأبكر في ضرب العائلات، تعود إلى سياسة الأعيان الصغار وإلى همومهم.

يزكّي هذا الميلَ أنّ المسيحيّين عموماً، والكسروانيّين منهم خصوصاً، باتوا يفتقرون تماماً إلى كلّ أداة في فهم واقع بدأ منذ 1990 يبدو لهم غريباً وغامضاً.

فعند جوان حبيش، «لا يبدي الكسروانيّون أيّ قلق حيال الفراغ الرئاسيّ وباقي المسائل الوطنيّة الكبرى. ما يهمّهم هو الأمن والاستقرار ولقمة العيش لأنّ همومهم اليوميّة أكبر من كلّ همّ سياسيّ». أمّا اللاعبون الكبار والمؤثّرون فكلّهم غرباء مطلقون، أكانوا لبنانيّين أم غير لبنانيّين.

وإذا كانت حركة «داعش» أثارت لديهم بعض الخوف، وقدّمت للعونيّة حججاً سبق أن انتزعها منها «التفاهم» مع «حزب الله»، فهذا لا يحول دون آراء واسعة لا تنقصها سذاجة الاستخفاف بالحركة المذكورة. فـ «داعش»، وفق أحدهم، «لا تعنينا… فإذا جاءت أغلقنا حدودنا من المدفون إلى نهر الكلب، والسلاحُ موجود والشباب موجودون».

وربّما عزّز هذا النظر الضيّق إلى الأمور المحيطة أنّ الكسروانيّين، الذين استقبلوا المهجَّرين اللبنانيّين إبّان الحرب، لم يُهجَّروا هم أنفسهم من قبل. فحين انفجر الوضع السوريّ، وهو بدوره حدث غير مفهوم تماماً، تأكّد لهم صواب انكفائهم واكتفائهم، واتّسعت دائرة الكلام عن فيديراليّة ترسّخ مسافتهم وتسهر عليها.

فهم تعاطفوا مع السوريّين في بدايات ثورتهم، لكنّ الثورة طالت و «باتت تُضجرنا»، فضلاً عن تراجع العداء لآل الأسد، وهم أعداء الأمس، مع تقدّم الحركات السلفيّة والجهاديّة.

فوق هذا فالثورات العربيّة، لا سيّما منها السوريّة، ضربت الكثير من الصادرات الزراعيّة الكسروانيّة، التي يعتمد عليها أهل الجرد، إلى ليبيا ومصر والخليج.

وإذ يُقدّر اليوم عدد السوريّين في جونيه بخمسة آلاف، معظمهم عمّال ورش تقيم عائلاتهم معهم، فإنّ التذمّر يتزايد من تسوّل السوريّين الأفقر. وبينما يتفهّم البعض ألمهم «لأنّنا سبق أن عرفنا آلام المهجّرين اللبنانيّين الذين أتوا إلينا»، فهذا لا يلغي أنّهم «حين يتكاثرون قريباً من مناطق سكنيّة يسبّبون إزعاجاً (…) لقد طرأت حوادث مع العمّال السوريّين وبعض القرى منعهم من الحركة ليلاً».

ونحن، في آخر المطاف، هنا. ونحن، في آخر المطاف، هكذا. وليتدبّر سائر الكون أمره.